أكمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذي طوى تهيئة جيشه للانطلاقة الأخيرة التي بها تصبح المدينة المقدسة، مكة الكرمة محررة تمامًا من دنس الشرك ورجس الوثنية، وأخذت آلاف الخيل وكأنها ترقص تضرب الأرض بحوافرها تمايل وتنازع راكبيها الأعنَّة تريد الانطلاق.
ووقفت جميع الفرق الأربع على أهبة الاستعداد، كل فرقة قد انحازت في ميدان الحشد الأخير بذى طوى، وقائد كل فرقة يتجول بحصانه أمام صفوفها يلقى عليها الأوامر بالتزام النظام والانضباط في انتظار إشارة الهجوم من الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم -.
وفي تلك اللحظات الحاسمة اعتدل ميزان التاريخ وحقق الله لعباده الصابرين المؤمنين الوعد الذي وعدهم به {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}(١).
وتهيأت مكة الحبيبة وكادت جبالها تزحف (فرحا) لاستقبال ابنها الأمين البار الصابر المحتسب، وجيشه الباسل المظفر المؤمن ليخلصها من رجس الوثنية وانحطاط الجاهلية، ويعيد إلى ربوعها أشعة أنوار دين إبراهيم - عليه السلام -، ليضئ معالمها التي عاشت آلافًا من السنين في ظلمات من الشرك والجهل والتخلف، حالكة وأخذ التاريخ طِرسه ليسجل (في زهو) تلك المفارقة العجيبة الرائعة، التي تتجسد فيها أعظم العظات والعبر، وتستقطب الفكر كله للدرس والتأمل والنظر.
[هكذا تكون ثمار الثبات على العقيدة]
إن ما شهدته مكة في صباح ذلك اليوم التاريخي الأغر من مفارقات عجيبة رائعة، إنما هو إحدى ثمار الثبات على العقيدة السليمة الدافعة التي نقتَّتت (متمثلة في حاملها الثابت عليها) كلَّ شيء يعترض سبيلها حتى ولو كان الجبال الراسيات.
وأية مفارقة أروع وأعظم مما كتبه التاريخ في ذلك اليوم الأغر، من