وكانت هذه الفتاة الصالحة الفاضلة تعلم ما تضمنه صلح الحديبية من شرط ينص على التزام النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم إيواء أحد من أبناء قريش في المدينة حتى وإن جاء مسلمًا إلا بإذن أهله.
فكانت تخشى أن يردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين - تنفيذ لهذا الشرط - وقد أبدت تخوفها هذا لأم المؤمنين أم سلمة، لأنها إنما جاءت من مكة فرارًا بدينها. غير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طمأنها بعد أن أخبرته زوجه أم سلمة قصتها.
كيف يكون أثر الإِيمان عندما يتمكن من النفوس
إن قصة الفتاة أم كلثوم وهجرتها إلى الله ورسوله. وتحمُّلها في سبيل ذلك من الأخطار وعزمها على أن تهاجر وحدها. فتقطع أكثر من ثلاثمائة ميل مشيًا على الأقدام. ورغم ما في ذلك من أخطار عليها وهي المرأة الضعيفة (وكل النساء بطبعهن ضعيفات) .. إن قصة هجرتها قصة شيِّقة. فيها تتجسد التضحية البالغة بركوب المخاطر في سبيلِ الحفاظ على العقيدة التي إذا رسخت في القلوب وأشرقت بنور ربها تجعل معتنقها وكأنه خلق خلقًا جديدًا. فهذه فتاة شابة في مقتبل العمر. عندما لامس الإسلام قلبها ورسخت عقيدته الصافية في نفسها نسيت أهلها ووطنها. ولم يكن لها هم إلا ترك دار الكفر والالتحاق بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في (المدينة)، رغبة في الحفاظ على عقيدتها التي كانت -كما صرحت هي لدى وصولها المدينة - تخشى أن يطالها الإِرهاب والتعذيب فتفتن - لضعفها - فتفارق الإِسلام. الذي مفارقتا لروحها أهون عليها من أن تفارقه وتخرج منه. ولهذا تركت مكة وقررت أن تهاجر إلى المدينة (مشيًا على الأقدام بمفردها). رشرعت - فعلًا - في الهجرة، إذ غادرت مكة (خلسة) مصممة على أن تقطع تلك المسافة البعيدة المحاطة بالأخطار الجسام وحدها، لولا أن الله قيّض لها رجلًا شهمًا نبيلًا وعفا كريمًا ومن معدن قلّ أن يوجد مثله في الرجال ... رجلًا ما كانت تعرفه ولا يعرفها. فكان لها خير راع وحارس أمين حتى أوصلها المدينة ثم عاد من حيث أتى دون أن تعرف اسمه