لحيته لتقطر دموعا الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. قال كعب: فقال لي بعض أهلى: لو استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لامرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن خدمه. فقلت: والله، لا أستأذنه فيها، ما يدرينى ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك إذا استأذنته، وأنا رجل شاب، والله لا أستأذنه. ثم لبثنا بعد ذلك عشر ليالٍ، وكملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامنا.
[انتهاء المحنة بالتوبة]
ثم يستطرد كعب بن مالك متحدثًا عن مجيء الفرج عن السماء بانكشاف المحنة القاتلة وذلك بنزول القرآن بتوبة الثلاثة المتخلفين من الصحابة التي ذكر الله فيقول: ثم صليت الصبح على ظهر بيت من بيوتنا على الحال التي ذكر الله عزَّ وجلَّ، وقد ضاقت على الأرض بما رحبت، وضاقت على نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع، فكنت، إذ سمعت صارخا أوفى على سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء الفرج. فأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله علينا حِين صلى الصبح.
وكانت التوبة التي تاب الله بها على الصحابة الكرام الثلاثة قد تضمتنها ثلاث آيات وهي قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلا إِلَيهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
وكانت أم المؤمنين أم سلمة تروى حديث هذه التوبة فتقول: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل: يا أم سلمة، قد نزلت توبة كعب بن مالك وصاحبيه. فقلت: يا رسول الله، ألا أرسلت إليهم فأبشرهم؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يمنعونك النوم آخر الليل، ولكن لا يرون حتى يصبحوا. قال: فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح أخبر الناس بما تاب الله