ولعل أروع مثال حيّ للانضباط الإسلامي وكبت المسلمين لعواطفهم تقيدًا بهذا الانضباط والذي شاهده بعض سادات قريش في الحديبية فأخذوا به، ودهشوا له، يتمثل في قصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو الذي كان أشد الناس تأثرًا - في أعماق نفسه - بهذا الانضباط.
فقد رأى سهيل بن عمرو وبقية أعضاء الوفد القرشي في المفاوضة. رأوا كيف تفجر الغضب في نفوس المسلمين، وهاجت عواطفهم عندما رأَوا سهيل بن عمرو هذا يأْخذ بتلابيب ابنه المسلم ويلطمه على وجهه، ليرده إلى قريش المشركة وهو مسلم جاء يرسف في قيوده ملتجئًا إلى المسلمين في الحديبية، لينقذوه ويحموه من إرهاب أهله الوثنيين وتعذيبهم .. رأى سهيل بن عمرو وبقية أعضاء وفده وكل من كان حاضرًا من المشركين .. رأوا أن كلمة واحدة هادئة قالها نبيهم - صلى الله عليه وسلم - قد جعلتهم يكظمون غيظهم ويلجمون عواطفهم الثائرة .. نعم كلمة هادئة واحدة قالها محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي جندل:
"إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنَّا لا نغدر بهم".
هذه الكلمة الهادئة التي قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي جندل عندما طلب حق اللجوء إلى المسلمين، رأى سهيل بن عمرو وباق أعضاء وفده من المشركين كيف قيدت ألفًا وأربعمائة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ رأوا جميعهم أن العهد الذي أعطاه نبيهم في وثيقة الصلح لا يسمح لهم بأن يتخذوا أَي إجراءٍ يحول بين سهيل بن عمرو المشرك، وبين استلام ابنه المسلم، فلم يحرّكوا ساكنًا لحماية أَبي جندل، مع -