للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نظر الجاهلين المشركين من قومه، جناية.

مع أنها في واقعها، كانت أعظم عملية إنقاذ حاول إنسان القيام بها لإخراجهم من ظلام الشرك إلى نور التوحيد، ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم والمعرفة، ومن استعباد الوجدان والفكر إلى حرية الضمير والتفكير، ومن عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق.

أيَّة موعظة وعبرة، وأيّ عجب أعجب من تلك المفارقة التي سجلها التاريخ ضمن قصة كفاح ذلك الإنسان الكامل - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه وسلم. الذي تذكر مكة ولا تنسى (وهي تقف اليوم يرجف كبار مجرميها تحت رحمة عشرة آلاف محارب، يقودهم هذا الرجل الذي أراد أهل مكة أن يجعلوا منه طريدًا لا عودة له) تذكر مكة ولا تنسى أن هذا الرجل إياه خرج منها وحيدًا خائفًا يترقب، يترصده الموت في كل مكان ليس معه من البشر من يشاركه تلك الأخطار سوى رجل واحد هو صاحبه الأكبر أبو بكر الصديق.

وها هو اليوم يعود إلى مكة الحبيبة مرفوع الرأس وضاح الجبين، قد أحاطه الله بالعزة والمنعة وألبسه رداء السيادة ووضع في يده مقابض كل القيادة، قد أحاط به خر يموج بآلاف الفرسان وآلاف الشاة من جنود الله، كلهم يفديه بمهجته.

حقًّا إنه لأمر عجيب، ومفارقة أعجب، والمفارقة الرائعة (التي منها يستمد العاقل المتبصر العبر والمواعظ) تتجسد في أن هذه البلدة (مكة) التي خرج كل أهلها لمطاردة محمد بقصد الفتك به، يستقبلهم اليوم أهلها (أولئك أنفسهم) في ذل وانكسار، وأيدى كبار مجرميها تتحس رؤوسهم خوفًا من أن تفصلها عن كواهلهم سيوف الرجل الطريد بالآمس والفاتح العزيز المنتصر اليوم.

إنهم لم يتركوا وسيلة للقضاء عليه والتخلص منه ومن دعوته إلَّا واتبعوها غير متحرجين. ولكن ها هم اليوم قد أصبح مصيرهم جميعًا في يده بعد أن ألقوا السلاح وأعلنوا الاستسلام لجيوشه لعجزهم (فقط) عن مقاومتها، ولو قدروا على مقاومتها لفعلوا. ولكن ماذا فعل بهم عندما انتصر عليهم وسيطرت جيوشه على مكة؟ .

<<  <  ج: ص:  >  >>