يتحرك من المدينة بذلك الجيش الضخم (ثلاثين ألفا) وفي ذلك الفصل من الحر الشديد مع العسرة والضائقة المالية الشديدة التي عليها عامة أصحابه، إلا بعد أن تلقى معلومات تفيد أن القيادة الرومانية في الشام تحشد الجيوش وأن طلائع هذه الجيوش (وهي أربعون ألفا) قد وصلت البلقاء (١) قريبا من حدود جزيرة العرب. فاهتم لهذه الأنباء اهتمامًا شديدًا، فجهز ذلك الجيش الإِسلامي الضخم، ليلقى على الرومان درسًا عمليا ويفهمهم أنه قادر عسكريا على حماية حدود الجزيرة من أي اعتداء قد يكون الرومان (فعلًا) قد خططوا للقيام به اعتمادًا على قواتهم الضاربة الضخمة المدربة المجهزة أحسن تجهيز.
ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما وصل بجيشه تبوك بعث منها بطلائعه وفصائل استخباراته العسكرية، فلم يجدوا أي أثر لأية حشود رومانية أو عربية متنصرة موالية لهم على حدود الشام الجنوبية.
وأمام هذا الواقع يبرز سؤال، وهو لماذا لم تكن الحشود الرومانية موجودة على حدود الجزيرة العربية، كما جاء في الإخبارية التي بلغت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة، فتحرك على أثرها بجيشه في تلك الظروف التي يمكن تسميتها بأنها ظروف استثنائية، نظرًا لشدة الحر في ذلك الفصل والضائقة المالية التي عليه عامة المسلمين.
هل نكل الرومان عن الحرب التي كانوا يعدون لها، وهل نتيجة هذا النكول تأكد الرومان من جدية التحركات العسكرية الإِسلامية الضخمة، أم أن الإِخبارية عن تحشدات الرومان كانت غير صحيحة، وإنما أوعز الرومان إلى وكلاء استخباراتهم من العرب الموالين لهم بإشاعاتها لإِرهاب المسلمين واختبار مدى قوتهم الحربية ومقدرتهم القتالية فحسب؟
إلى هذا الرأي الأخير يميل ابن برهان الدين حيث قال في السيرة الحلبية: ولم يكن ذلك (أي الحشد الروماني) حقيقة، وإنما ذلك شيء، قيل لن يبلغ ذلك المسلمين ليرجف به، وكان ذلك في عسرة في الناس وجدب في