إن تصرفات الرسول القائد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، في حوادث الحديبية، هي في حدِّ ذاتها دستور شامل يمكن الرجوع إليه للاقتباس منه في باب (الحكمة والأناة وبُعد النظر وضبط النفس والسيطرة على الأعصاب أمام استفزازات السفهاء وتحدِّي الحَمْقَى، وفي مجال العدل والوفاء بالعهد واحترام المعارضة النزيهة) .. إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتوصل إلى عقد الصلح إلا بعد أن اجتاز مراحل شاقَّة وتغلَّب على مشاكل عويصة معقَّدة، سواء في محيط أصحابه الكرام المعارضين لإبرام هذا الصلح، أم في محيط قومه من قريش الذين حشدوا كل ما لديهم ولدى حلفائهم من قوات الحربية ليخوضوا مع المسلمين معركة يخرجوا لها ولا يرغبون فيها .. فأحبط بشجاعته وحلمه وصبره معًا، خطط المتهورين القرشيين الشِّريرة وجعلهم يجنحون إلى السلام، بدلًا من الحرب فيسعون (هم أنفسهم) لعقد هذا الصلح التاريخي.
كان الرسول العظيم قمة في الحنكة السياسية حين أقدم على الصح قريش، مخالفًا آراء عدد كبير من صحابته الذين قاسوا الأُمور بمظهرها السطحي، ولم يكن لهم بعد نظر الرسول الحكم الحليم. وسرعان ما أثبتت الأحداث صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبُعد نظره، فحقق صاح الحديبية ما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤمل من ورائه. وأخذ المسلمون يعملون على نشر الدعوة الإسلامية بحرية وقوة، فتضاعف عدد المسلمين، وتسربت فضائل الإسلام وأخلاق المسلمين الكريمة إلى نفوس عدد كبير من شيوخ القبائل ورؤوس الكفر في قريش، مما جعلهم يغيِّرون نظرتهم إلى الدين الجديد، ويقلِّلون