للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك القول: إن صلح الحديبية من أعظم الانتصارات ذات الأَثر البعيد الفعال في توطيد دعائم الإسلام وبناء دولته (١).


(١) قال الإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد (ج ٢ ص ٣١٨) - يصف بعض مكاسب صلح الحديبية: "فصل في الإشارة إلى بعض الحكم التي تضمنتها هذه الهدنة".
وهي أكبر وأجل من أَن يحيط بها إلا الله الذي أحكم أسبابها، فوقعت الغاية على الوجه الذي اقتضته حكمته وحمده.
فمنها: أنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم، الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا ومؤذنًا بين يديه، وهذه عادة الله في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أَن يوطيء لها بين يديها بمقدمات وتوطيئات تؤذن بها وتدل عليها.
ومنها: أَن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح، فإن الناس أمن بعضهم بعضًا، واختلط المسلمون بالكفار، ونادوهم بالدعوة وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من دان مختفيًا بالإسلام، ودخل في مدة الهدنة من شاء الله أَن يدخل. ولهذا سماه الله فتحًا مبينًا. قال ابن قتيبة: قضينا لك قضاء عظيمًا. وقال مجاهد: هو ما قضى الله له بالحديبية.
وحقيقة هذا الأمر: أَن الفتح في اللغة: هو فتح المغلق. والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان بابه مسدودًا مغلقًا حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة: ضيما وهضمًا للمسلمين، وفي الباطن: عزًّا وفتحًا ونصرًا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ما وراءه من الفتح العظيم، والعز والنصر، من وراء ستر رقيق، وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر الصحابة ورؤوسهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب، وعسى أَن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.
وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها، ما مثله سبب
فدخل على تلك الشروط دخول واثق بنصر الله له وتأييده، وأن العاقبة له، وأن تلك الشروط واحتمالها: هو عين النصرة، وهو من أكبر الجند الذي أقامه المشترطون ونصبوه لحربهم، وهم لا يشعرون. فذلوا من حيث طلبوا العزة، وقهروا من حيث أظهروا القدرة والفخر والغلبة. وعز رسول الله صلى الله عليه وسلم وعساكر الإسلام =

<<  <  ج: ص:  >  >>