فقد عانى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (في يثرب) من هذا الخلق اليهودى أشد المتاعب وواجه أخطر المشاكل وتعرض لشتى المؤامرات، ومع ذلك ظل التسامح مع هؤلاء اليهود والصفح عنهم شعار النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يقابل غدرهم وتآمرهم بالكف عن دمائهم التي كان قادرًا على سفكها.
وآخر إجراءات العفو والتسامح التي اتبعها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع هؤلاء اليهود، هي معاملته يهود بني النضير في المدينة حيث حقن دماءهم وأعفى نساءهم وذراريهم من السبى وسمح لهم بأن يهاجروا إلى أي مكان شاؤوا آمنين على أرواحهم وما قدروا على حمله من أموالهم.
غير أن هؤلاء اليهود لم يكد يستقر بهم المقام في (خيبر) حتى جعلوا منها أخطر قاعدة للعدوان على الإِسلام والمسلمين فلاقى المسلمون نتيجة وجود هذه القاعدة أشد المتاعب وأخطر الأهوال التي كادت تعصف بوجودهم وتمحو كيانهم على النحو الذي فصلناه في كتابينا (غزوة الأحزاب وبنى قريظة).
فأثبت هؤلاء اليهود بذلك (وبما لا يدع مجالًا للشك) أنهم -ما بقوا على قيد الحياة- لن يرضوا بغير هدم كيان الإِسلام واستئصال شأفة المسلمين، مهما بلغ المسلمون معهم في الصفح وحسن المعاملة، ومهما أعطى اليهود من عهود وأبرموا من مواثيق.
لذلك كان من البديهى (بل من الضرورى) أن لا يسلك النبي القائد - صلى الله عليه وسلم - غير سبيل القضاء على هؤلاء اليهود وسحق كيانهم إتقاءً لشرهم وقطعًا لتيار خطر عدوانهم الذي ما كان ليتوقف لولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقل المعركة إلى ديارهم واحتل قواعد عدوانهم، فضمن بذلك أمن وسلامة المسلمين من شر عدوان وغدر هؤلاء اليهود.
من هنا (والله أعلم) جاء السبب في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه من بعده (وبعد التشريع بقبول الجزية من أهل الكتاب) لم يعاملوا يهود خيبر كما يعاملون بقية أهل الكتاب من مختلف الطوائف من الاكتفاء بإعطائهم الجزية، لأن هؤلاء اليهود أصبح لهم حكم الخونة الناكثين الذين تكرر منهم الغدر والخيانة والتمرد والتآمر وأثبتت التجارب المتكررة أنهم لا يمكن أن يفوا