فلو لم يكن باعث استرجاع صفية من دِحْية الكلبى هو باعث إنسانى شريف ما خيّرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن حررها من رق الأسر - بين أن تعود إلى أهلها حرّة معززة مكرمة وبين أن يتزوجها لتكون إحدى أمَّهات المؤمنين.
ولو أراد صلى الله عليه وسلم أخذها لنفسه جارية سريّة لفعل، ولا يمكن أن يجد طاعن أي مجال للطعن في تصرفه - صلى الله عليه وسلم - لأن قوانين الحرب المتفق علها بين جميع الشعوب والأمم والتي عمل بها الإِسلام وطبقها (كعمل حربي مقابل)(١) في ذلك العصر تبيح للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعامل صفية كنوع من الرقيق فيتخذها لنفسه جارية دونما أخذ موافقتها لأنها أسيرة حرب تعتبر مملوكة بموجب قانون الحرب الدولى المعمول به في ذلك العصر.
ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكريمًا لهذه السيدة العظيمة في قومها أبي إلا أن يخصها من بين جميع السبايا بإعطائها مطلق الحرية في أن تختار أي السبيلين تريد بمحض إرادتها: العودة إلى عشيرتها مع البقاء على دينها أو الدخول في الإِسلام لتكون زوجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا فرق بينها وبين ابنة أبي بكر الصديق في الحقوق والواجبات، فاختارت الزواج من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمحض اختيارها.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبالغ في إكرام هذه السيدة ويراعى شعورها لعلمه بما هي عليه من حساسية وشعور مرهف، كامرأة عزيزة في قومها فقدت الوالد والزوج (كلاهما ملك على قومه).
فقد كانت صفية نفسها تتحدث عن هذه المعاملة النبيلة والمواساة النابعة من أشرف قلب، فقد قالت: كنت ألقى من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، يفخرن عليّ، يقلن: يا ابنة اليهودى وكنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلطف لي ويكرمنى، فدخل علي يومًا وأنا أبكى فقال: ما لك؟ فقلت: أزواجك
(١) انظر كتابنا (عزوة بني قريظة) الفصل الرابع تجد (تحت عنوان: لماذا أباح الإِسلام الرق) أوسع التفاصيل لدفع الشبه التي وجهها أعداء الإِسلام لموقفه من الرق الحربى.