للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسمع ذلك العبّاس بن عبد المطلب، فقام، فانخذل ظهره فلم يستطع القيام، فأشفق أن يدخل داره فيؤذَى، وعلم أن سيؤذى عند ذلك، فأمر بباب داره يفتح وهو مستلق، فدعا بابنه قثم وكان يشبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعله يرتجز ويرفع صوته ألّا يشمت به الأعداء، وحضر باب العبَّاس بين مَغِيظ محزون، وبين شامت، وبين مسلم ومسلمة، مقهورين لظهور الكفر والبغى، فلمَّا رأى المسلمون العباس طيّبة نفسه طابت أنفسهم واشتدت منّتهم (١) ودعا غلامًا يقال له أبو زبينة، فقال له: إذهب إلى الحجاج فقل: يقول العباس: "الله أعلى وأجل من أن يكون الذي تخبر خقًا) فجاءه فقال الحجاج: قل لأبي الفضل: أجلَّنى في بعض بيوتك حتى آتيك ظهرًا ببعض ما تحب فاكتم عنى. فأقبل أبو زبينة يبشر العباس "أبشر بالذي يسرّك" فكأنه لم يمسه شيء، ودخل عليه أبو زبينة فاعتنقه العبَّاس وأعتقه وأخبره بالذي قال، فقال العباس: لله عليَّ عتق عشر رقاب! فلمَّا كان ظهرًا جاءه الحجاج فناشده الله: لتكتمَنَّ عليَّ ثلاثة أيام. فواثقه العبَّاس على ذلك قال: فإني قد أسلمت ولى مال عند امرأتى ودين على الناس، ولو علموا بإسلامى لم يدفعوا إليَّ، تركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فتح خيبر، وجرت سهام الله ورسوله فيها وانتثل ما فيها (٢)، وتركته عروسًا بابنة حييّ بن أخطب وقتل ابن أبي الحُقيق.

قال: فلمَّا أمسى الحجاج من يومه خرج، وطال على العبَّاس تلك الليالى، وجعل العبَّاس يقول: يا حجاج، انظر ما تقول فإني عارف بخيبر هي ريف الحجاز أجمع وأهل المَنعَة والعُدَّة في الرجال. أحقّ ما تقول؟ قال: أي والله، فاكتم عنى يومًا وليلة.

قال الواقدي: حتى إذا مضى الأجل والناس يموجون في شأن ما تبايعوا (أي تراهنوا) عليه، عمد العبَّاس إلى حلَّة فلبسها وتخلَّق الخلوق (أي تطيَّب) وأخذ في يده قضيبًا ثم أقبل يخطر حتى وقف على باب الحجاج بن عِلاط، فقرعه فقالت زوجته: لا تدخل، أبا الفضل! قال: فأين


(١) المنة بضم الميم: القوة.
(٢) انتثل الشيء: استخرجه وأخذه.

<<  <  ج: ص:  >  >>