كما أن في تولية عمرو بن العاص قيادة أمثال أبي بكر وعمر وسعد وأبي عبيدة وسعد بن عبادة. يستفاد منها درس مهم آخر وهو أن صلاح الإِنسان وتقواه وسابقته في نصرة الإِسلام لا تعنى أحقيته دائما في السيادة وقيادة الجيوش. وإنما الأحقية هنا للخبرة الحربية. والمهارة في القيادة والسياسة العسكرية.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى عمرو بن العاص القيادة العامة لجيش يضم صفوة أهل السابقة في الإِسلام من المهاجرين والأنصار وعمرو (مع حنكته السياسية ومقدرته الحربية) لا يصل إلى منزلة واحد ممن تولى قيادتهم من المهاجرين والأنصار من حيث الفضل والسبق إلى النصرة. فهو لم يمض على إسلامه (حينما تولى قيادة هؤلاء الأصحاب) أكثر من أربعة أشهر. ومع ذلك فقد أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قيادتهم وصاروا جنودا يأتمرون بأمره. لأنه عالم بشئون الحرب (١).
وهذا لا يعني أن هؤلاء المهاجرين والأنصار ليس فيهم من لديه المؤهلات لقيادة الجيوش. فبينهم من قاد الجيوش (كعمرو) وفتح الفتوح مثل سعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح. وعلى كل حال فإن ما حدث في غزوة ذات السلاسل. من إسلاس سادات المهاجرين والأنصار قيادهم لمثل عمرو بن العاص الذي هو (بدون شك) دونهم في المنزلة من حيث الفضل والسابقة -هو الخط الصحيح المستقيم الذي رسمه (عبر التربية النبوية العالية) أولئك السادة البررة الكرام لمن يأتي بعدهم من أمة محمَّد. ليسيروا عليه في مجال التضحية ونكران الذات. من أجل مصلحة الإِسلام والمسلمين العليا. إنها عبرة لمن يعتبر وعظة لمن يتعظ. ممن يريدون حقا نصر الإِسلام وإعزاز المسلمين.
(١) وقد شهد له بعلمه بفنون الحرب أبو بكر الصديق. فقد ذكر في السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣١٤ أن أبا عبيدة وعمرو بن العاص لما اختلفا وأصر عمرو على أن يمنع الجيش من إشعال النار في الليل غضب ابن الخطاب وهم أن يأتي عمرا فمنعه أبو بكر. وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستعمله إلا لعلمه بالحرب. فسكت.