للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلا يسمحون بأن تتطور أية منازعات (مهما اشتدت) إلى حد الاقتتال كما هي الحال الشائعة في محيط مختلف القبائل العربية الوثنية الأخرى التي قد تنشب بينهم حرب ضروس من أجل ناقة أو حصان كما حدث في حربى داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وحرب البسوس بين بكر وتغلب.

ولا أدل على هذه الحقيقة الحضارية (إن صحت هذه التسمية) التي تمتاز بها قريش من أنها لَمَّا اشتد الخلاث بين عشائرها حول أية عشيرة يحق لها أن ترفع الحجر الأسود إلى موضعه عند بناء الكعبة في الجاهلية، وبلغ شدة الخلاف إلى أن أصبحت على حافة حرب أهلية مدمرة، تراجع العقلاء من زعمائها المتخاصمين على حل حكيم يدل على رجاحة عقل وتمدن بعيد المدى، وهو أن يكون أول داخل من باب بني شيبة من أبناء قريش حكمًا في النزاع الخطير حول الحجر الأسود. فكان أول داخل محمد بن عبد الله الهاشمي قبل أن يتلقى الوحى من السماء، ففرح زعماء قريش واطمأنت نفوسهم لأن الحكم بينهم سيكون رجلًا تجمع قريش كلها على حبه واحترامه حتى أنها تسميه بالأمين، فحل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الخلاف وقضى على النزاع الخطير بتصرف دل على رجاحة عقل وبعد نظر لا مثيل لهما، حيث طلب إحضار ثوب وأمر بوضع الحجر الأسود فيه، ثم طلب رجلًا من كل قبيلة ليمسك بجانب من الثوب فيرفع الجميع الحجر الأسود إلى موضعه في الكعبة، وبهذا تكون قريش كلها قد اشتركت في رفع الحجر الأسود، وبهذا التصرف الحكيم اختفى شبح الحرب الأهلية التي كانت تهدد قريشًا بالفناء.

وقد حمدت قريش لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذي كانوا يسمونه - قبل أن يدعوهم إلى التوحيد - بالأمين. حمدت له تصرفه الحكيم الذي أبعدها عن حافة حرب أهلية مدمرة كادت أن تقع فيها، وزادت منزلته سموًا حتى بعثه الله تعالى رسولًا فناصبوه العداء وحاربوه. وراموا قتله كما هو معلوم.

كما أنه لا أدل على تماسك المجتمع القرشي وتقدمهم على بقية الوثنيين العرب في مضمار التمدن من حلف الفضول الذي أقاموه والذي بموجب بنوده تعهد سادات قريش بأن لا يوجد مظلوم في مكة إلا أنصفوه من ظالمه كائنًا من

<<  <  ج: ص:  >  >>