للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تحمل أكثر من معنى من معاني الخبث والنفاق، لم يعبر عن استيائه بأكثر من أنه (فقط) أعرض عن الجد بن قيس، وذهب في الحلم على هذا المنافق إلى أن أذن له في التخلف عن الجيش قائلًا: قد أذنت لك (١).

ومن عجائب المفارقات التي تصنعها العقيدة، أن لهذا المنافق الجد بن قيس، ابن صالح شديد الإِيمان، كان شهد بدرًا مع المسلمين، وهو أخو معاذ بن جبل لأمه، واسمه عبد الله (٢) .. هذا الشاب الثابت العقيدة الصالح المؤمن، لما بلغته مقالة أبيه النابية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب إليه لقدم له النصح كى يتوب إلى الله مما فاه به من منكر القول أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولينفر ضمن الجيش مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حيث يريد، لا سيما وأنه غنى من أغنياء المدينة، وسيد من سادات الخزرج المرموقين، والمفروض فيهم أن يكون (بإخلاص) في مقدمة الجيش النبوي الغازى.

فقد قال هذا الشاب المؤمن الطيب عبد الله لأبيه الباطنى المنافق الجد بن قيس -متسائلا في استنكار-: لم ترد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته؟ فوالله ما في بني سلمة أكثر مالا منك، ولا تخرج ولا تحمل أحدًا (أي لا تساعد أحدًا من المعوزين المجاهدين) بخيل ولا ركاب يركبها في هذه الغزوة، فقال الجد المنافق لابنه المؤمن الصادق: يا بني ما لي وللخروج في الريح والحر والعسرة إلى بني الأصفر؟ .

ثم اندفع بلغة الإِرجاف والتخوف من قوة الرومان لعله يؤثر في معنويات ابنه المؤمن ومن يسمع قوله الخبيث، فيخافوا فيقعدوا مثله مع الخوالف، فقال -وهو يحاور ابنه-: والله ما آمن من بني الأصفر وأنا في منزلى بخربى، فأذهب إليهم فأغزوهم، إني والله يا بني عالم بالدوائر.

وهنا تفاعلت عوامل الغضب لله ولرسوله في نفس الشاب المؤمن الصادق -فوضع اعتبار العقيدة فوق كل اعتبار، فداس -في سبيل نصر عقيدته- على عاطف الأبوة، فخاطب أباه كما يخاطب المنحرفين الضالين


(١) مغازي الواقدي ج ٣ ص ٩٩٢.
(٢) هو عبد الله بن الجد بن قيس، قال في أسد الغابة: هو من الأنصار من بني سلمة، شهد بدرًا وأحدًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>