فالتزم (في معاملة هؤلاء اليهود الذين اتضح من تصرفاتهم أنهم لن يرضوا بأقل من الإِطاحة به وقطع تيار دعوته) التزم في معاملتهم سياسة الحزم والشدة والعنف، لا رغبة في الانتقام وشفاء الغليل، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما دلت تصرفاته الحكيمة بعيدًا كل البعد عن هذه الروح، وإنما كان باعث هذه السياسة الحازمة الجديدة التي انتهجها مع هؤلاء اليهود (بعد زلزلة الأحزاب) هو الرغبة الشريفة في أن يسود المنطقة جوّ من الطمأنينة والأمن والاستقرار .. دلت التجارب العملية المتكررة على أنه لا يمكن توفيره للناس ما بقى لليهود سلطان أو نفوذ في جزيرة العرب كلها.
- ٦ -
وأول نتيجة لالتزام هذه السياسة الصادمة الجديدة إزاء تكرار غدر اليهود وتآمرهم، إنزال المسلمين (في السنة الرابعة من الهجرة) تلك العقوبة الصارمة بيهود بني قريظة في المدينة حيث تم إعدام حوالي ثمانمائة منهم جزاء ارتكابهم -ضد المسلمين- تلك الجرائم الخسيسة البشعة التي حوت معاني الغدر والخيانة والنكث والتآمر، والتي أقدموا عليها في أحرج ظرف يمر به المسلمون، بقصد المشاركة في القضاء عليهم ومحو كيانهم من الوجود .. حيث انقلبوا على المسلمين وناصبوهم العداء بل وأعلنوا عليهم الحرب، وهم في أحرج موقف يواجهون فيه ساعة مصيرهم، وعقربها يهتز زاحفًا نحو الصفر ليعلن نهايتهم على أيدى قوات الأحزاب الضاربة المحيطة بالمدينة من كل جانب .. لولا المعجزة التي جاءت من عند الله بدحرهم وتشتيت شملهم.
فقد كان بين يهود بني قريظة والمسلمين معاهدة حلف عسكرى (بالإِضافة إلى معاهدة عدم الاعتداء) تنص بأن يلتزم الفريقان معًا بواجب الدفاع عن يثرب ضد أي عدوان خارجى ضد أي منهما (١).
غير أن يهود بني قريظة عندما أطبقت جيوش الأحزاب الضاربة على المسلمين في المدينة نقضوا تلك المعاهدة غدرًا وخيانة، مستغلين وقوع
(١) انظر كامل بنود هذه المعاهدة في كتابنا (غزوة أحد) ص ٣٤ وفي كتاب: الوثائق السياسية للدكتور محمد حميد الله.