ولم يكتف بنو قريظة بنقض العهد وإلغاء الحلف الذي بينهم وبين المسلمين، بل سارعوا إلى وضع أيديهم في أيدى الغزاة، الأمر الذي ضاعف من محنة المسلمين وزاد من كربهم، حيث جعلهم تصرّف بني قريظة هذا بين شقّى الرحا .. جيوش الأحزاب من الإمام ويهود بني قريظة (حلفاء الأمس) من الخلف بضواحى المدينة. وكم هو فظيع أن ترى حليفك، قد انحاز إلى أعدائك الغزاة وشهر السلاح ليضربك به من الخلف في الوقت الذي تتوقع فيه أن يكون واقفًا بهذا السلاح إلى جانبك لصد العدوان عليك كحليف يزن كلمته التي أعطاها بميزان الشرف، ولكنهم اليهود وكفى.
ومن هنا (وعلى قدر بشاعة الجريمة التي ارتكبها يهود بني قريظة) جاء العقاب صارمًا رادعًا كأعنف ما يكون .. ثمانمائة مقاتل من يهود بني قريظة أعدمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة واحدة بعد محاكمة نزيهة عادلة (١).
- ٧ -
لقد كانت محاكمة يهود بني قريظة وما نتج عنها من عقوبة حازمة صارمة، نقطة التحوّل الأولى في سياسة قيادة المسلمين في المدينة من اللين إلى الشدة في معاملة اليهود الغادرين.
إذ تكوّن لدى المسلمين (على ضوء التجارب المريرة المتلاحقة) اقتناع كامل بأن انتهاج سياسة اللين والعفو والتسامح إزاء ما يرتكبه اليهود من جرائم الغدر والنكث والخيانة والتآمر، لم ولن تغيِّر من طبيعة الدس والتخريب والتآمر السابحة في دماء هؤلاء اليهود، شيئًا، بل أطمعتهم ووسَّعت من دائرة الأحلام التي كانت تراود كبار زعمائهم بالعودة إلى يثرب وبسط ظل سلطانهم الأسود الدخيل عليها من جديد.
ولم يعد هناك شك لدى قيادة المسلمين العليا في المدينة - بعد الذي حدث في غزوة الأحزاب المزلزلة - أن خيبر (بعد أن استوطنها المنفيون من يهود بني النضير) أصبحت القاعدة الرئيسية للعدوان على المسلمين، وأن
(١) انظر رد المؤلف لشبهات الطاعنين المنتقدين لهذه المحاكمة في كتابه الرابع (غزوة بني قريظة) الفصل الرابع.