الصغير أصبحت أمرًا مفروغًا منه. إذا بالقائد الجديد لهذا الجيش يعيد تنظيمه (في تلك الساعات الحاسمة) من جديد ويشن به هجومًا كاسحًا يشيع الفوضى والهلع والارتباك في صفوف الجيش الروماني. ثمَّ ينسحب بسلام وانتظام دون أن يخسر رجلًا واحدًا. ودون أن يجرأ الجيش الروماني على تعقبه وملاحقته أثناء انسحابه. مع علم قيادة الجيش الروماني. أن الجيش الإِسلامي الصغير المنسحب. تفصله عن عاصمته التي قرر الانسحاب إليها مسافة لا تقل عن ستمائة ميل. مزروعة كلها بعناصر معادية للجيش المسلم الأمر الذي يجعل (حسب المقاييس العسكرية العادية) من السهل على الجيش الروماني تعقب الجيش الإِسلامي المنسحب وتمزيقه وإبادته.
ولكن شيئًا من هذا لم يحدث. بل - بدلًا من أن تفكر قيادة الجيش الروماني في مطاردة الجيش الإِسلامي المنسحب ومهاجمته وهو ينسحب - كان سرورها عظيمًا بانسحابه من الميدان. لأنها عانت منه خلال الأيام الستة في مؤتة ما نسخ من أذهانها كل مفاهيمها عن المحارب العربي بعد أن أصبح مسلمًا. له عقيدة يرى الاستشهاد في سبيل نصرتها غاية ما يتمنى. فما هو السر في كل هذا الذي حدث مما يمكن اعتباره من الخوارق للعادة؟ .
إن الباحث العسكري الخبير المنصف - وهو يضع أحداث محركة مؤتة في المختبر للتحليل - لن يجد أية صعوبة (بعد ظهور عدم التكافؤ بين الجيشين المتصادمين في مؤتة على النحو الذي فصلنا). لن يجد أية صعوبة في إصدار حكمه القاطع بأن ما حققه الجيش الإِسلامي الصغير من انتصارات بصموده ذلك الذي بلغ ما يقرب الإِعجاز. إنما كان يرجع إلى عامل واحد. هو عامل العقيدة. عقيدة الإِسلام التي رسخت في قلب كل جندى من جنود ذلك الجيش المسلم الصغير.
والتي كانت الإِيجابية الرئيسية لرسوخ هذه العقيدة هو حرص كل واحد من هؤلاء الجنود على الموت في سبيل الله أكثر من حرصه على الحياة. . هذه الإِيجابية الرائعة التي عبر عنها أصدق تعبير القائد الثالث في هذه المعركة التاريخية الخالدة بقوله: (والله يا قوم إن التي تكرهون لهي التي خرجتم تطلبون الشهادة فانطلقوا بنا إلى عدوّنا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما