أو أنه قابع "في برج عال منعزل"، تغلبت عليه النجوم، يقلب صفحات أفلاطون، ويساءل أين المساء.
أية عوالم وأية أقطار شاسعة تتسع لهذا العقل الخالد الذي تخلى عن قصره في زواية من جسده.
أو هو يتذكر مآسي العشاق والميتات الحزينة للملوك. وخير من هذه الفلسفة الصارمة هناك "صحن الدير الذي يعج بالجهد والجد في العمل والدرس" في الكاتدرائية الكبرى، ونوافذها التي تروي مشاهد التاريخ وضوئها المظلل:
فليعرف الأرغن المجلجل، للمرتلين ذوي الأصوات الممتلئة أدناه، في أصوات عالية وترنيمات صافية، فلربما غمرتني عذوبة الأنغام في أذني بنشوة، وأبرزت كل السموات أمام ناظري".
تلك هي المتعة والمسرات التي يجدها "الرجل المفكر"، وإذا بدت مرتبطة بالمكآبة، فإن الشاعر سيقضي حياته مع الكآبة. ففي هاتين القصيديتين البهيجتين، يكشف ملتون عن ذاته وهو في الرابعة والعشرين، شاباً تتحرك مشاعره لكل ما في الحياة من جمال، ولا يجد حرجاً في المسرات والملذات، كما وجد التفكير المحير في الحياة والموت طريقه إلى نفسه فتأثر به، كما أحس بالصراع بين الدين والفلسفة يحتدم بين جوانبه.
وحانت أول فرصة ليبرز فيها الشاعر ويذيع صيته في ١٦٣٤ حين كلف بكتابه مسرحية ريفية يمثلها ممثلون مقنعون في الاحتفالات بتولية أرل يرد جووتر رئيساً "لمجلس الغرب". ولحن هنري لاوس الموسيقي التصويرية. أما شعر ملتون فكان مجهولاً أسم مؤلفه تواضعاً. وكان موضع ثناء وإطراء، إلى حد أنه حمل على الاعتراف بأنه مؤلفه. وأطراه سير هنري وتون قائلاً: في أغانيك وقصائدك رفة دورية (نسبة إلى الدورين الذين غزواً بلاد الإغريق في القرن ١٢ ق. م.) لم أر لها مثيلاً في لغتنا حتى اليوم (٣٠)