إننا إذا تأملنا هذه الصورة، وحسبنا عدد ساعات التفكير الطوال التي كانت المرشد الهادي أثناء الدقائق التي قضاها يعمل بفرشاته، إذا فعلنا هذا أعدنا النظر في حكمنا على ما يبدو لنا من تباطؤ ليوناردو وكسله، وأدركنا مرة أخرى أن عمله كان يشمل فيما يشمله ما قضاه في التفكير وفي غير نشاط من أيام يخطئها الحصر، مثله في هذا كممثل المؤلف إذ يتجول في المساء، أو يستلقي على فراشه دون أن يطرق عينه النوم، يضع خطة ما سيكتبه في غده من فصل أو صفحة أو بيت من الشعر، أو يكرر بلسان عقله كلمة وصف جميلة أو عبارة ساحرة خلابة. يضاف إلى هذا أن ليوناردو، في خلال السنوات الخمس التي قضاها في فلورنس والتي شهدت صور العذراء والطفل والقديسة آن بجميع أشكالها، وموناليزا والصورة التمهيدية الوحسية، والمعركة الحامية الوطيس، وجد متسعا من الوقت رسم فيه عدة صور أخرى كالصورة الجميلة لجنيفرا ده بينتشي Ginevra de Benci الموجودة الآن في فينا، وصورة الطفل الفتى المفقودة التي خرج عنها آخر الأمر إلى مركيزة مانتوا (١٥٠٤) بعد إلحاح شديد، ولكن وكيلها أرسل معها مذكرة كبيرة للدلالة قال فيها "إن ليوناردو قد اصبح يضيق أشد الضيق بالتصوير، ويقضي معظم وقته في الهندسة النظرية"(٢٣). ولعل ليوناردو في أثناء هذه الساعات التي يقضيها متعطلا في الظاهر، كان يدفن الفنان في العالم ويدفن أبليز في فاوست Faust.
غير أن العلم لم يأته بمال، ومع أنه كان يعيش الآن عيشة بسيطة خالية