وأثارت هذه الاتهامات وتلك الإدانة الاهتمام بالديكارتية من جديد. وجذبت الأنظار إلى مذهب الشك الذي أدخله "بحث في المنهج"، وانتشر الشك الأولى الذي جاء به هذا المقال خفية، أما ملحقاته أو ذيوله القويمة المستقيمة فقد ذبلت وانطفأت جذوتها. وما كان يبقى في القرن الثامن عشر شيء من هذا "المنهج" الذي كان يوماً ظافراً منتصراً اللهم إلا محاولته الهبوط بالعالم إلى مجرد آلة "ماكينة" تذعن لقوانين الفيزياء والكيمياء. وبدا أن كل اكتشاف جديد في العلوم يؤيد "آلية" ديكارت، ويضعف الثقة في لاهوت ديكارت. ولم يوجد مكان لرب إبراهيم واسحق ويعقوب في الصورة التي وضعها ديكارت للكون، كما أن المسيح لم يكن ماثلاً فيها. ولم يبق إلا رب عملاق أعطى العالم دفعة أولية، ثم تقاعس، اللهم إلا بوصفه كفيلاً وضامناً لأحداس ديكارت، وهذا لم يكن الرب المهيب الرهيب الذي ورد ذكره في العهد القديم، ولا الأب الرحيم الذي ورد ذكره في العهد الجديد، أنه كان رب "الربوبيين"، غير مشخص ولا عمل له، جدير بالإهمال، تخضع لمختلف القوانين، فمن ذا الذي يفكر في الصلاة من أجل هذا العبث الأبيقوري؟ وبالفعل في عامي ١٦٦٩ و١٦٧٨ شرحت كتب غليوم لامي الأستاذ بكلية الطب في جامعة باريس، علم نفس ميكانيكي تماماً، واستبقت بذلك كتب كوندياك "في الأحاسيس"(١٧٠٤) كما شرحت فلسفة مادية استبقت كتاب لامتري "الإنسان آلي"(١٧٤٨). وفي غمرة هذا العراك قام سيرانو دي برجراك برحلاته المخزية إلى القمر والشمس.
[٢ - سيرانو دي برجراك]
١٦١٩ - ١٦٥٥
سيرانو بالنسبة لمعظمنا هو العاشق الولهان الذي قلده الروائي روستان ساخراً، والذي خسر في كل سباق مع ربات الجمال وهو على وشك الفوز بالوصول. ولكن سيرانو الحقيقي لم يخب رجاؤه إلى هذا الحد، بل تنعم بالحياة وبالحب، وقضى وقت مستمتعاً كل المتعة. وإلى التعليم المألوف الذي يتلقاه كل فتى كريم المحتد، أضاف سيرانو (مع موليير) الاستماع في شغف ولهف إلى محاضرات بيير جاسندي القسيس المحبوب الذي أولع بأبيقور المادي ولوكريشس الملحد. وأصبح سيرانو روحاً قوية بشكل خاص، فاسقاً بما تحمل هذه الكلمة