وكانت حضارة جديدة عجيبة قد نشأت في سوريا وفلسطين المسيحيتين. ذلك أن الأوربيين الذين استوطنوا هذين البلدين منذ عام ١٠٩٩ قد تزيوا شيئاً فشيئاً بالزي الشرقي، فلبسوا العمامة والقفطان اللذين يوائمان مناخ تلك البلاد ذات الشمس والرمال. وزاد اتصالهم بمن يعيشون في تلك المملكة من المسلمين، فقل بذلك ما بين الجنسين من تنافر وعداء، فأخذ التجار المسلمون يدخلون بكامل حريتهم البلدان المسيحية ويبيعون أهلها بضاعتهم، وكان المرضى من المسيحيين يفضلون الأطباء المسلمين واليهود على الأطباء المسيحيين (٢٨)، وأجاز رجال الدين المسيحيون إلى المسلمين أن يؤموا المساجد للعبادة، وأخذ المسلمون يعلمون أبناءهم القرآن في المدارس الإسلامية القائمة في إنطاكية وطرابلس المسيحيتين، وتعهدت الدول المسيحية والإسلامية بأن تضمن سلامة التجار والمسافرين الذين ينتقلون من إحداهما إلى الأخرى. وإذ كان الصليبيون لم يأتوا معهم إلا قليل من زوجاتهم فقد اتخذ كثيرون ممن أقاموا منهم في الدول المسيحية لهم زوجات سوريات؛ وسرعان ما كون أبناء هذا الزواج المختلط عنصراً كبيراً من سكان الدول الجديدة، وأصبحت اللغة العربية لغة التخاطب اليومي العامة للسكان، وعقد الأمراء المسيحيون أحلافاً مع الأمراء المسلمين ضد منافسيهم من المسيحيين، كما كان الأمراء المسلمون في بعض الأحيان يستعينون "بالمشركين" في شئون السياسة والحرب. ونمت صلات المودة الشخصية بين المسيحيين والمسلمين. وقد وصف الرحالة ابن جبير الذي طاف بسوريا المسيحية في عام ١١٨٣ بنى دينه المسلمين بأنهم ينعمون بالرخاء ويلقون معاملة حسنة على يد الفرنجة. وكان مما