إن تمثال الخطيب العظيم القائم في متحف الفاتيكان ليعد من الروائع الفنية الواقعية التي أخرجها العصر الذي انتشرت فيه الحضارة اليونانية خارج بلاد اليونان الأصلية؛ فوجهه يبدو عليه الهم والقلق، كأن كل نصر أحرزه فليب قد أحدث غصناً جديداً في جبهته؛ والجسم نحيل منهوك، ومظهره مظهر الرجل الذي يوشك أن يدعو الناس للأخذ بيده للدفاع عن قضية يرى أنه قد خسرها. وتكشف العينان عن حياة قلقة، وتتنبئان بموت مدبر.
وكان أبوه صانع سيوف وأسِرَّة، ترك له تجارة تبلغ قيمتها أربع عشرة وزنة (٠٠٠ ر ٨٤ ريال أمريكي). واختار الوالد ثلاثة من الرجال ليديروا هذه الأملاك لصالح الغلام، ولكنهم أنفقوها على أنفسهم بسخاء، اضطر معه دمستين حين بلغ سن العشرين (٣٦٣) أن يقاضي الأوصياء عليه لكي يستعيد ما بقي من ميراثه. وأنفق معظم ما آل إليه في تجهيز سفينة ذات ثلاثة صفوف من المجاديف وهبها للأسطول الأثيني، ثم أخذ يعمل لكسب عيشه بكتابة الخطب للمتقاضين؛ وكان أقدر على الكتابة منه على الكلام، لأنه كان ضعيف الجسم عيّ اللسان. ويقول عنه بلوتارخ إنه كان في بعض الأحيان يعد دفاعاً لكلا الطرفين المتنازعين. وكان يعمل في هذه الأثناء للتغلب على ما فيه من نقص طبيعي، فكان يخاطب البحر وفمه مملوء بالحصباء، أو يخطب وهو يصعد فوق الجبل. وكان مجداً في عمله لا يشغله عنه إلا السراري والغلمان. وقال أمين سره يشكو أمره: "ماذا عسى أن يفعل الإنسان بدمستين؟ إن الشيء الذي قضى عاماً