وكان الناس في كل مكان يسمونها "الكنيسة الكبرى" وحتى بروكبيوس المتشكك نفسه تحدّث عنها حديث الرجل المرتاع فقال: "إذا دخل الإنسان هذه الكنيسة للصلاة، أحس بأنها ليست من أعمال القوى البشرية … ذلك أن الروح ترقى إلى السماء تدرك أن الله هنا قريب منها؛ وأنه يبتهج بهذا اليوم، بيته المختار"(١).
[٤ - من القسطنطينية إلى رافنا]
كانت أياصوفيا أجلّ ما قام به جستنيان من الأعمال، وكانت أبقى على الدهر من فتوحه أو قوانينه، ولكن بروكبيوس يصف أربعاً وعشرين كنيسة أخرى بناها جستنيان أو أعاد بناءها في عاصمة ملكه. ويقول:"لو رأيت كنيسة منها بمفردها لحسبت أن الإمبراطور لم يبْن كنيسة سواها بل قضى سني حكمه جميعها في بنائها وحده"(٣). وظلت حمى البناء منتشرة في جميع أنحاء الإمبراطورية طوال حياة جستنيان، حتى كان القرن السادس وهو بداية العصور المظلمة في الغرب من أكثر العصور ازدهاراً في تاريخ العمارة في الشرق. فكانت ألف كنيسة في إفسوس، وإنطاكية، وغزة، وبيت المقدس، والإسكندرية، وسلانيك، ورافنا، ورمة، واللاد الممتدة من كرش في بلاد القرم إلى الصفاقس في شمالي أفريقية، تحتفل بانتصار المسيحية على الوثنية، وبالطراز الشرقي-البيزنطي على الطراز اليوناني-الروماني. وحلّت العقود والقباب محل الأعمدة الخارجية، والعوارض، والقواصر، والطنف. وازدهرت في سوريا
(١) لما استولى الأتراك على القسطنطينية في عام ١٤٥٣ غطوا فسيفساء أياصوفيا بالجص، لكراهيتهم ما عليها من صور منحوتة، يعدونها من عبادة الأصنام. ولكن الحكومة التركية قد أذنت منذ قليل إلى طائفة من العمال من المعهد البيزنطي ببسطن بولاية مسشوستس أن يكشفوا عن هذه النماذج الفنية من أعمال الفسيفساء التي لا تسمو عليها نماذج أخرى في العالم كله. وكاد الفاتحون الأتراك يكفرون عما فعلوه بهذه الكنيسة بإقامة أربع مآذن رشيقة تتناسب أتم التناسب مع أشكال القباب.