في هذا الكتاب الثاني من المجلد الحادي عشر لموسوعة قصّة الحضارة يُواصل المؤلفان حديثهما عن التطوّرات التي حدثت في أعقاب الثورة الفرنسيّة، وكان بعض هذه التطورات استمراراً لأفكار الثورة، وكان بعضُها الآخر تصحيحاً لها. وهذا الكتاب كما هو واضح من عنوانه يتناول السياسة والاقتصاد والدين والفن والأدب والعلم ومختلف مظاهر الحياة في سياق واحد يُفَسّر بعضُه بعضَه الآخر فتأتي النظرةُ شاملةً عميقة، بالإضافة إلى أنّ هذا المنهج يُوضح تزاوج الحضارات ولقاء الأفكار.
نفهم من هذا الكتاب أنّ التقسيم النظري للمذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا وُجود له بشكل واضح على أرض الواقع فثمة تقسيم نظري (وهذا مجرد مثال) تبين فصول الكتاب أنه مجرّد تقسيم لا يخرج عن رؤوس من سمّاهم نابليون بالأيديولوجيين أي المنظّرين، وكانت الكلمة - حين استخدمها - تنطوي على شيء من السخرية، ونعني به تقسيم النُّظم إلى علمانية ودينية، فليس هناك نظام واحد يستطيع حتّى لوْ أراد أن يُغفِل عقائد الشعب حتّى لو كانت عقائد خرافيّة.
من المؤكَّد أنّ الكنيسة الكاثوليكية في روما لم تكن تعتبر نابليون مسيحياً أو على الأقل لم تكن تعتبره كذلك من وجهة نظرها، ولم يحضر الرجل للصلاة في كنيسة، ولم يحضر تسبيحه شكر وفقاً للطقس المسيحي، ولم يؤمن في يوم من الأيام بفكرة التثليث في المسيحية، وتزوّج ماري لويز النمساوية في الوقت الذي لم يكن البابا قد أقرّ طلاقة من جوريفين (أى أنه جمع بين زوجتين) ولم يؤمن يوماً بعصمة البابا (وهو مُعتقد في صلب العقيدة الكاثوليكية) بل لقد أهانه بعد ذلك كما نقرأ في فصول هذا الكتاب وسَجَنه وجرّده من ممتلكاته … نابليون إذن من وجهة نظر معاصريه الأوروبيين كافر أو مُلحد أو عَلْماني بل إن السلطات الكنسيّة لم تكن مُقتنعة أن اعتناقه للإسلام في مصر كان مجرّد خدعة فوصفته بالمرتد عن المسيحية.
ومع كل هذه العلمانيّة إن صحّ التعبير، وجدنا نابليون نفسه عندما أراد أن يضبط ما انْفلت في فرنسا: ضياع، وتمرّد وتفسّخ في الأسرة وفي الحياة العامة، وافتقاد لجو الرخاء الاقتصادي والاستثمار