كان خليقاً بمصر أن تكون أسعد بلدان الأرض قاطبة، لأن النيل يرويها ويغذّيها، ولأنها أكثر بلاد البحر الأبيض المتوسط قدرة على الإكتفاء بخيراتها- فهي غنية بالحب والفاكهة، وتنتج أرضها ثلاث غلات في العام، ولم يكُن يعلو عليها بَلَد آخر في صناعاتها، وكانت تصدّر الغلات والمصنوعات إلى مائة قطر وقطر، وقلما كان يزعجها ويقلق بالها حرب خارجية أو أهلية. ولكن يبدو أن "المصريين" برغم هذه الأسباب- أو لعلّهم لهذه الأسباب- "لم نعموا بالحرية يوماً واحداً في تاريخهم كلهم"(١) على حد قول يوسفوس. ذلك أن ثروتهم كانت تغري بهم الطغاة أو الفاتحين واحداً في إثر واحد مدى خمسين قرناً من الزمان كانوا فيها يستسلمون لأولئك الطغاة والفاتحين (١).
(١) هذه إحدى الأكاذيب التي يرويها المؤرخون دون تحقيق والتي يكذّبها تاريخ مصر تكذيباً قاطعاً، فلقد نعمت مصر في جميع أدوار تاريخها بعصور من الحرية طوال؛ وإذا كانت قد خضعت في بعض أيامها لغيرها من الدول فإن معظم الأمم لم تسلم من هذا الخضوع، وقد امتصّت مصر الفاتحين فمصّرتهم أو أخرجتهم من أرضها واحتفظت بطابعها مع ما يقتضيه الزمن من تطوّر لابد منه. وإذا كانت قد حكمها ملوك أو حكّام وَفَدَ آباؤهم عليها من خارجها فإن هذا لا ينقص من استقلالها، وقد حدث مثله في معظم بلاد العالم. وليس صحيحاً أيضاً انهم مستسلمون إلى الحد الذي يصفه المؤرّخ فلطالما ثاروا في جميع أدوار التاريخ على الطغاة والغاصبين. (المترجم)