تقع يثرب، التي سميت فيما بعد "مدينة النبي" على الحافة الغربية من الهضبة العربية الوسطى. وكانت إذا قورنت من حيث جوها بمكة بدت كأنها جنة عدن، وكان بها مئات من الحدائق وغياض النخل، والضياع. ولما دخل محمد المدينة تقدمت إليه طائفة في إثر طائفة وألحت عليه أن ينزل عندها ويقيم معها؛ وأمسك بعضها بزمام ناقته لتمنعه عن مواصلة السير وأصرت على ذلك إصراراً تمليه عليها تقاليدها العربية، وكان جوابه غاية في حسن السياسة فكان يقول لهم:"خلوا سبيلها فإنها مأمورة"، وبهذا لم يترك للغيرة سبيلاً إلى قلوبهم لأن الله وحده هو الذي يسير الناقة ويهديها إلى حيث تقف. وبنى محمد في المكان الذي وقفت فيه ناقته مسجداً وبيتين متجاورين أحدهما لسودة والآخر لعائشة، وأضاف إليهما مساكن أخرى لزوجاته الأخريات.
وكان حين غادر مكة قد قطع كثيراً من صلات القرابة، فلما جاء إلى المدينة اعتزم أن يستبدل بصلات الدم صلات الأخوة الدينية في الدولة الجديدة، كما أراد أن يقضي عل أسباب الغيرة بين المهاجرين الذين جاءوا من مكة والأنصار الذين أسلموا من أهل المدينة-وكانت بوادر هذه الغيرة قد بدت في ذلك الوقت-فآخى بين كل واحد من إحدى الطائفتين وزميل له من الطائفة الأخرى، وطلب إلى كلتيهما أن تصلي في المسجد مع أختها. وفي أول احتفال أقيم في المدينة صعد المنبر وقال بصوت عالٍ "الله أكبر" وردد المجتمعون النداء بأعلى صوتهم وسجد لله وهو لا يزال متجهاً بظهره إليهم، ثم نزل عن المنبر بظهره فلما وصل إلى آخره