يجدر بنا قبل أن نتحدث عن الرجال الذين أنشئوا هذه الحضارة وميزوها من غيرها من الحضارات، ونصف أعمال هؤلاء الرجال، أن نصور لأنفسنا البيئة التي كانوا يعيشون فيها. إن الحضارة ريفية في أصولها وقواعدها، ولكنها مدنية في صورتها، إذ لابد أن يجتمع الناس في المدن حتى يستمع بعضهم إلى بعض وينبه بعضهم بعضاً.
ولقد كانت البلدان الإسلامية جميعاً تقريباً غير كبيرة في سعتها لا يزيد سكان الواحد منها على عشرة آلاف ومنها ما يقل عامرها عن ذلك، يحشرون في رقعة ضيقة لها أسوار تحميها من الغارات والحصار، مظلمة شوارعها مليئة بالتراب والوحل، ذات بيوت صغيرة مطلية بالجص ومحوطة بجدران متصلة ترد عنها الأبصار. وكان جلال المدينة كله محصوراً في مسجدها، ولكن كانت تقوم في أماكن متفرقة من الأقطار الإسلامية مدن كبيرة ارتقت فيها الحضارة الإسلامية إلى أعلى درجات الجمال والمعرفة والسعادة.
وكانت مكة والمدينة، ولا تزالان، في نظر المسلمين مدينتين مقدستين، لأن في أولهما الكعبة التي كان العرب يقدسونها في الزمن القديم، كما أن فيها مسقط رأس الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولأن الثانية هي المكان الذي هاجر إليه وأقام فيه. وقد جدد الوليد الثاني بناء مسجد المدينة الصغير وجعله مسجداً فخما ذا روعة وجمال. وأرسل إمبراطور بيزنطية بناء على طلب الوليد، وفي نظير ثمانين ألف دينار، أربعين حملاً من أحجار الفسيفساء، كما استقدم الوليد ثمانين من مهرة الصناع من مصر وبلاد اليونان، حتى لقد شكا المسلمون من أن مسجد