للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الفصل الثالث

[الأدب]

لقد كان الأدب من أسباب فرقة بلاد اليونان كما كان من أسباب وحدتها، شأنه في هذا شأن الدين سواء بسواء. ذلك أن الشعراء كانوا يغنون بلهجاتهم المحلية، وكثيراً ما كانوا يصفون مناظر أقاليمهم، ولكن هلاس كلها كانت تستمع إلى أكثر الأصوات فصاحة. وكانت من حين إلى حين تستحثهم على أن يطرقوا موضوعات أعم وأوسع من تلك الموضوعات المحلية الضيقة. ولقد عدا الدهر كما عدت الأهواء الضيقة على هذا الشعر المبكر فأبادت أكثره حتى لم يعد في وسعنا أن نحس بما فيه من ثراء، وبما كان يطرقه من موضوعات، وبما يعزى إليه من جزالة اللفظ وجمال الشكل؛ ولكننا حين نطوف بجزائر اليونان ومدنهم في القرن السادس قبل الميلاد لا يسعنا إلا أن نعجب بوفرة ما تطالعنا به هذه الجزائر والمدن من الأدب اليوناني قبل عصر بركليز، وبجودة هذا الأدب. وإن الشعر الغنائي في ذلك القرن لتنعكس فيه صورة مجتمع أرستقراطي كانت فيه المشاعر والأفكار والأخلاق حرة مادامت تراعى واجبات الأدب وحسن التربية. وقد أخذ هذا الأسلوب من الشعر الحضري المصقول يختفي شيئاً فشيئاً في عهد الديمقراطية. وكان مختلف المبنى متعدد الأوزان، ولكنه قلما كان يقيد نفسه عن إحساسه وخياله في لغة موزونة (١).

وبينما كان أصحاب الشعر الغنائي يتغنون بالحب والحرب، كان الشعراء الجوالون ينشدون في مجالس العظماء الملاحم في وصف ما قام به اليونان من


(١) كان الشعر المقفى مقصوراً في الغالب على أقوال المتنبئين وعلى النبوءات الدينية.