كل ازدهار التجارة يمد جذوره في اتساع نطاق التجارة والصناعية، ويستمد غذاءه من هذا الاتساع. وكان استيلاء المسلمين على ثغور البلاد الواقعة في شرق البحر المتوسط وجنوبه، وعلى تجارة هذين القسمين، وغارات المسلمين وأهل الشمال والمجر على بلاد أوربا، وما حل بها من الاضطراب أيام خلفاء شارلمان، كان هذا كله سبباً في انحطاط الحياة الأوربية الاقتصادية والعقلية في القرنين التاسع والعاشر إلى الدرك الأسفل؛ فلما أن حمى الإقطاع الزراعة وأعاد تنظيمها، وروض قراصنة الشمال فأصبحوا الزراع والتجار النورمان، وصد الهون واعتنقوا الدين المسيحي، واستعادت التجارة الإيطالية معظم ثغور البحر المتوسط، وأعاد الصليبيون فتح البلاد الواقعة في شرق هذا البحر، واستيقظ الغرب في أثر اتصاله بحضارتين أرقى من حضارتا الإسلام وبيزنطية، لما حدث هذا كله أتيحت الفرصة في القرن الثاني عشر لانتعاش أوربا، ووجد الحافز القوي هذا الانتعاش، والوسائل المادية لازدهار الثقافة في القرن الثاني عشر، وواصلت هذا الانتعاش حتى منتصف القرن الثالث عشر أي إلى بداية نهاية العصور الوسطى.