وعندما طوي الخيال جناحيه، أصبح نابليون قادراً على استخدام عقله على نحو ما يفعل أفضل العلماء وأكثرهم مقدرة في المعهد العلمي الفرنسي، ومعهد دراسة مصر. ورغم أنه لم يستنبط نظاماً محدداً من الفكر يتحتم سجن الكون داخله بحيث لا تفلت منه شاردة ولا واردة، إلاّ أن عقله الواقعي قد أظهر القصورَ في أعمال المفكرين الذين يسيئون استخدام الأفكار ويبنون قلاعاً في الهواء لا أساس لها من البيولوجيا biology (علوم الأحياء) أو التاريخ. فبعد أن جرَّب (أي نابليون) لابلاس وغيره من العلماء في المناصب الإدارية، خلص إلى "أنك لا تستطيع أن تنجر أي عمل مع فيلسوف" وعلى أية حال فإنه شجع العلوم وأوصى بدراسة التاريخ فمن أقواله لابد أن يدرس ابني كثيرا من علم التاريخ وأن يستغرق في تأمله،" فالتاريخ هو الفلسفة الوحيدة الحقيقية ".
وكان الدين واحداً من المجالات التي روّج لها المفكرون بدلاً من ترسيخ أنفسهم في مجال التاريخ. وقد شعر نابليون أن عالم المنطق وحده هو الذي يمكن أن يقلق طويلاً أمام هذا السؤال: هل الله موجود؟ أما الفيلسوف الحقيقي الذي تعلم في مدرسة التاريخ فيجب أن يسأل لماذا يظل الدين حياً دائماً ويلعب دوراً مهماً في كل حضارة، رغم أنه - أي الدين - كان في أغلب الحالات تنقصه الحجة ويدعو للسخرية؟ لماذا قال فولتير الفيلسوف المتشكك إن الله لو لم يكن موجوداً لكان من الضروري أن نخترعه أو بتعبير آخر نتخيل وجوده؟.
لم يكن نابليون نفسه يؤمن بعقيدته الدينية منذ كان في الثالثة عشرة من عمره. وفي بعض الأحيان كان يتمنّى لو كان قد احتفظ بها. إنني أتخيّل أنها (أي العقيدة) لابد أن تؤدي إلى سعادة كبيرة حقيقية وكلنا يعرف القصة التي حدثت في مصر عندما سمع بعض العلماء (الفرنسيين) يتحدثون عن (الخالق) بغير وقار، إذ تحداهم مشيراً إلى النجوم:"تحدثوا كما تشاءون، وأطيلوا الحديث كما يحلو لكم أيها السادة من خلق كل هذه النجوم؟ "
ومن الممكن أن نقتبس من أقواله ما يؤيد وما يعارض مقالته هذه وموضوعات أخرى كثيرة، لأنه غيّر وجهات نظره بمرور الوقت، كما تغيرت حالته النفسيّة أيضاً ونحن نميل لتجاهل تواريخ حدوث هذا التغير، فحتى بالنسبة للمفكّر الذي لم يبلغ