ومع هذا فقد كان في هذه المرحلة الأخير من مراحل الثقافة الهلنستية متشككة يعيدون إلى الأذهان شكوك بروتجوراس، وكان فيها لوشيان، يسخر من العقائد الدينية بوقاحة كوقاحة أرستبس، وبأسلوب لا يكاد يقل سحراً عن أسلوب أفلاطون. ولم تكن مدرسة بيرو Pyrrho قد ماتت بعد، وقد أعاد إينسديمس Aenesidemus النسوسي صياغة أقوالها الإنكارية بمدينة الاسكندرية في القرن الأول الميلادي، وذلك في "الأساليب" Tropoi العشرة أو المتناقضات التي تجعل المعرفة مستحيلة (١). وفي أواخر القرن الثاني صاغ سكستس إمبركس Sextus Empiricus، وهو رجل لا نعرف له تاريخاً ولا موطناً، فلسفة المتشككة في شكلها الأخير وضمنها عدة مجلدات هدامة بقيت منها حتى الآن ثلاثة. ويتخذ سكستس العالم كلّه عدوّاً له، ويُقسّم الفلاسفة أجناساً مختلفة، ويقضي عليهم واحداً
(١) منها (١) أن أعضاء الحس (كالعينين) في الحيوانات المختلفة، وفي الآدميين المختلفين، تختلف في شكلها وتركيبها، وأن المفروض فيها أن تنقل لصاحبها صوراً للعالم مختلفة. وأنى لنا أن نعرف أي هذه الصور هو الصحيح؟ (٢) وأن الحواس لا تنقل إلا جزءاً صغيراً من الجسم المحس كجزء محدد من الألوان، والأصوات، والروائح؛ وما من شك في أن الصورة الذهنية التي تتكون لدينا عن هذا الجسم صورة جزئية غير موثوق بصحّتها. (٣) وأن هذه الحواس قد تتعارض إحداها مع حاسة أخرى. (٤) وأن الجسم المحس يتلون، وقد يتلون خطأ، بحالتنا الجسمية والعقلية: حالة اليقظة أو النوم، والشباب أو الشيخوخة، والحركة أو السكون، والجوع أو الشبع، والكره أو الحب. (٦) وأن مظهر الشيء المحس يختلف باختلاف حالة البيئة التي تحيط به - من ضوء، وهواء، وبرد، وحر، ورطوبة الخ، فأي مظاهره هو الصحيح؟. (٨) وأن لا شيء يمكن معرفته بنفسه أو معرفته معرفة مطلقة، فهو لا يعرف إلا بصلته بشيء آخر أي بوصفه جزء من كل. (١٠) وأن عقائد الفرد موقوفة على العادات، والدين، والنظم، والقوانين التي نشأ فيها، وما من فرد يستطيع أن يفكر تفكيرا موضوعيا.