لئن بدأت إنسانية الإنسان بالكلام، وبدأت المدنية بالزراعة، فقد بدأت الصناعة بالنار التي لم يخترعها الإنسان اختراعاً، بل الأرجح أن قد صنعت له الطبيعة هذه الأعجوبة باحتكاك أوراق الشجر أو غصونه، أو بلمعة من البرق أو باندماج شاءته المصادفة لبعض المواد الكيمياوية، ولم يكن لدى الإنسان في ذلك إلا ذكاء الذي يقلد به الطبيعة ويزيدها كمالاً؛ ولما أدرك الإنسان أعجوبة النار استخدمها على ألف صورة، أولها فيما نظن أن أتخذ منها شعلة يقهر بها عدوه المخيف، ألا وهو الظلام، ثم أستعملها بعد ذلك للتدفئة، وبذلك استطاع أن يتحرك مبعداً عن مناطقه الاستوائية إلى مناطق أقل منها إرهاقاً للقوى، وبهذا الانتقال أخذ شيئاً فشيئاً يعمر الكوكب الأرضي فيجعله مسكناً للإنسان، ثم بعد ذلك أخذ يستعمل النار في المعادن فيلينها ويطرقها ويمزجها في هيئة أشد صلابة وأكثر مرونة مما وجدها عليه أول ما وجدها؛ لقد بلغت النار في أعين البدائيين من الغرابة ومن النفع حداً جعلها لديه إحدى المعجزات التي تستحق أن تتخذ إلهاً وتُعبد، ولذلك أقام لها ما لا يحصى عدده من الحفلات التعبدية، وجعل منها مركزاً لحياته وبيته؛ وكان كلما انتقل من مكان إلى مكان، حملها معه معينا بها، لا يرضى لها قط أن تخمد؛ بل أن الرومان أنفسهم أعدموا العذراء الطاهرة عقاباً لها على إهمالها الذي كان من شأنه أن تنطفئ النار المقدسة.
على أن الإنسان، إذ هو لم يزل في مراحل الصيد والرعي والزراعة، ما أنفك