إذا عبرنا المضيق من طنجة انتقلنا من ولاية من أقدم ولايات روما إلى ولاية من أحدثها. وتقع أسبانيا في موقع عظيم الخطر من الناحية الحربية، عند مدخل البحر الأبيض المتوسط، وفي جوف أرضها معادن ثمينة كانت نعمة عليها ونقمة روت أرضها بدماء الشره، وتخترقها سلاسل الجبال التي تعوق سبل الاتصال، وامتزاج السكان ووحدتهم. وقد أحسّت أسبانيا بحمى الحياة الشديدة من اليوم الذي كان فيه الفنانون في العصر الحجري القديم يصورون الثور الوحشي (البيزن) على جدران الكهوف في ألتميرا إلى أيامنا الحاضرة المضطربة. ولقد ظل الأسبان ثلاثين قرناً شعباً حربياً ذا عزة وأنفة، وأجسام نحيلة قوية، وشجاعة وجَلَدْ، وكانوا ولا يزالون أصلاب الرأي، أقوياء العاطفة، يمتازون بالزراعة والاكتئاب، والاقتصاد وكرم الضيافة، والمجاملة والمروءة، يسهل استثارة بغضهم، ويسهل أكثر من هذا استثارة حبّهم. ولما جاء الرومان إلى بلادهم وجدوا فيها سكاناً يتآلفون حتى في ذلك الوقت البعيد من أجناس مختلفة يتعذر فصل بعضها عن بعض: منهم الإمبيريون من أفريقية، واللجوريون من إيطاليا، والكلت من غالا، وعلى رأسهم طبقة من القرطاجنين. وإذا جاز لنا أن نصدق الرومان الذيبن فتحوا بلادهم قلنا أن الأسبان كانوا قبل الفتح الروماني شعباً قريباً من الهمجية، يعيش بعضه في مُدن وبيوت، وبعضه في قرى وأكواخ وكهوف، ينام على أرض الحجرات أو على الطين، ويغسل أسنانه بالبول المعتّق (١٨). وكان الرجال يلبسون عباءات سوداء والنساء يرتدين "مآزر طوالاً