كان الحكم المطلق نعمة على الفن وبركة، فقد كان أكثر من عشرة حكام يتنافسون في البحث عن المهندسين المعماريين، والمثالين، والرسامين ليزينوا لهم عواصمهم ويخلدوا ذكراهم، وكانوا ينفقون في هذا التنافس أموالا قلما تخصصها الديمقراطيات للجمال، أموالا لم يكن يستطاع تخصيصها للفن لو أن ثمار الجهود والعبقرية البشرية كانت توزع على الناس بالقسطاس المستقيم. وكانت نتيجة هذا ان الفن الإيطالي في عصر النهضة كان فنا خاص ببطانة الملوك ذا ذوق أرستقراطي، ولكنه كان في الأغلب الأعم يلم في شكله وموضوعه بحاجات العظماء من رجال الدنيا والسلطات الكنسية. ذلك هو فن النهضة على حين أن أنبل الفنون وأعظمها هو الذي يخلق للجماهير من كدحها ومن ثمار هذا الكدح هبة عامة ومجدا عاما، هكذا كانت الكنائس الفوطية الكبرى وهياكل بلاد اليونان وروما القديمة.
وترى كل ناقد يندد بكتدرائية ميلان لإكتضاضها بالزخارف، واضطراب خطوط البناء، ولكن أهل ميلان لا يزالون منذ خمسة قرون يجتمعون في مبناها الضخم الظليل، مشغوفين به، ولا يزالون حتى في هذا العهد المتشكك يعتزون به ويرون أنه عملهم الجماعي وموضع فخرهم المشترك. وكان الذي بدأ هذا البناء هو جيان جلياتسو فسكونتي (١٣٨٦)، وقد وضع تصميمه على نطاق خليق بعاصمة إيطاليا الموحدة التي كان يحلم بوجودها، فكانت تتسع لأربعين ألفا يعبدون فيها الله ويظهرون إعجابهم بجيان. وتقول الرواية المأثورة أن نساء ميلان كن يصبن في ذلك الوقت بمرض غريب في أثناء حملهن، وأن كثيرين من أطفالهن يموتون وهم صغار.