لقد كان أشق الواجبات التي واجهها التنظيم الكنسي هو منع تفتت الكنيسة بسبب تعدد العقائد المخالفة لتعاريف العقيدة المسيحية كما قررتها المجالس الدينية. ولم تكد الكنيسة تظفر بالنصر على أعدائها حتى امتنعت عن المناداة بالتسامح، فكانت تنظر إلى الفردية في العقيدة بنفس النظرة المعادية التي تنظر بها الدولة إلى الانشقاق عنها أو الثورة عليها، ولم تكن الكنيسة ولا الخارجون عليها يفكرون في هذا المرق على أنه مسألة دينية خالصة. وكان المرق في كثير من الحالات مظهراً فكرياً لثورة محلية تهدف إلى التحرر من سلطان الإمبراطورية. فاليعقوبيون Monophsityes كانوا يريدون أن يحرروا سوريا ومصر من سيطرة القسطنطينية، وكان الدوناتيون (١) يرجون أن يحرروا أفريقية من نير روما، وإذ كانت الكنيسة والدولة قد توحدتا في ذلك الوقت، فقد كان الخروج على إحداهما خروجاً على الاثنتين معا. وكان أصحاب العقيدة الدينية الرسمية يقاومون القومية، كما كان المارقون يؤيدونها ويدافعون عنها؛ وكانت الكنيسة تعمل جاهدة للمركزية وللوحدة، أما المارقون فكانوا يعملون في سبيل الاستقلال المحلي والحرية.
وأحرزت الآريوسية نصراً مؤزراً بين البرابرة بعد أن غلبت على أمرها في داخل الإمبراطورية. وكانت المسيحية قد جاءت إلى القبائل التيوتونية على أيدي
(١) شيعة مسيحية قامت في أفريقية في القرنين الرابع والخامس كانت تعارض في كل ما ينقص من الاحترام الواجب لشهداء الكنيسة، وتعامل الخاطئين بمنتهى القسوة. وتعيد تعميد من يعتنقون مبادئها من أتباع الكنيسة الكاثوليكية. وهي تنتسب إلى دوناتس Donatus أحد زعمائها. (المترجم)