بينا كان بندكت ورهبانه يعملون ويصلون آمنين مسالمين في مونتي كسينو، كانت الحرب القوطية (٥٣٦ - ٥٥٣) تجتاح إيطاليا من أقصاها إلى أقصاها وتترك الفوضى والفاقة أينما حلت. واضطربت الحال الاقتصادية في المدن وحلت بها الفوضى وتدهورت النظم السياسية، ولم يبق في روما نفسها سلطة مدنية عدا سلطة مبعوثي الإمبراطورية، يؤيدهم تأييداً ضعيفاً جنود بعيدون عنهم لا يتقاضون مرتباتهم. ولما انهارت السلطات الدنيوية على هذا النحو بدا لكل ذي عينين وللأباطرة أنفسهم أن لا حياة للدولة إلا ببقاء النظام الكنسي، ولهذا أصدر جستنيان في عام ٥٥٤ مرسوماً يطلب فيه أن "يختار الأساقفة والرجال المشهورون في كل ولاية الأشخاص اللائقين الصالحين لتصريف شئون الحكومة المحلية"(٨) ولكن جثة جستنيان لم تكد تبرد في مثواها الأخير حتى أخضعت غزوات اللمبارد (٥٦٨) شمالي إيطاليا مرة أخرى إلى الهمجية وإلى المذهب الأريوسي وهددت صرح الكنيسة كله وزعامتها في إيطاليا بأشد الأخطار. وخلقت هذه الأزمة رجلاً، وكان التاريخ مرة أخرى شاهداً بما للعبقرية من أثر عظيم.
ولد جريجوري في روما قبل موت بندكت بثلاث سنين، وهو ينتمي إلى أسرة عريقة من أعضاء مجلس الشيوخ. وقد قضى صباه في قصر جميل على سفح تل كئيليا Caelian. ولما توفي أبوه ورث عنه ثروة طائلة، وارتقى بسرعة في سلم المناصب السياسية فكان في الثلاثة والثلاثين من عمره عمدة لروما، ولكنه لم يجد