لم يدخر المسلمون في هذه القرون المجيدة من تاريخ الحياة الإسلامية جهداً في العمل على إيجاد هذا التفاهم الذي أشرنا إليه في الفصل السابق. فلقد أدرك الخلفاء تأخر العرب في العلم والفلسفة كما أدركوا ما خلفه اليونان من ثروة علمية غزيرة في بلاد الشام. لقد كان بنو أمية حكماء إذ تركوا المدارس الكبرى المسيحية، أو الصابئية، أو الفارسية، قائمة في الإسكندرية، وبيروت، وإنطاكية، وحران، ونصيبين، وغنديسابور لم يمسوها بأذى، وقد احتفظت هذه المدارس بأمهات الكتب في الفلسفة والعلم، معظمها في ترجمة السريانية. واستهوت هذه الكتب المسلمين العارفين باللغتين السريانية واليونانية، وما لبثت أن ظهرت ترجماتها إلى اللغة العربية على أيدي النساطرة المسيحيين أو اليهود. وشجع الأمراء من بني أمية وبني العباس هذه الاستدانة العلمية المثمرة، وأرسل المنصور، والمأمون، والمتوكل الرسل إلى القسطنطينية وغيرها من المدن الهلنستية-وأرسلوهم في بعض الأحيان إلى أباطرة الروم أعدائهم الأقدمين-يطلبون إليهم أن يمدوهم بالكتب اليونانية، وخاصة كتب الطب أو العلوم الرياضية. وبهذه الطريقة وصل كتاب إقليدس في الهندسة إلى أيدي المسلمين. وأنشأ المأمون في بغداد عام ٨٣٠ بيت الحكمة وهو مجمع علمي، ومرصد فلكي، ومكتبة عامة،
(١) واجب على كل كاتب عن العلوم عند المسلمين أن يسجل ما هو مدين به إلى جورج سارتن Geroge Sarton صاحب كتاب "المدخل في تاريخ العلوم". فليس هذا الكتاب القيم من أجل الأعمال في تاريخ البحث العلمي فحسب، بل إنه فوق ذلك قد أدى خدمة تجل عن التقدير إذ كشف عن غنى الثقافة الإسلامية واتساع مداها، وإن العلماء في كل مكان ليرجون من صميم قلوبهم أن يقدم كل ما يستطاع تقديمه من المعونة لإتمام هذا العمل الجليل.