لم تحتم المدن المسيحية في العصور الوسطى-إذا استثنينا بالرم وقليلاً من المدن الأسبانية-أن يعيش من فيها من اليهود منعزلين عن سائر السكان. لكن اليهود كانوا في العادة يعيشون في عزلة اختيارية عن غيرهم من الأهلين لتيسر لهم هذه العزلة حياتهم الاجتماعية وسلامتهم الجسمية ووحدتهم الدينية. وكان كنيسهم مركز الحي اليهودي الجغرافي، والاجتماعي، والاقتصادي، يجتذب إليه معظم مساكن اليهود، ولهذا ازدحمت المساكن حوله ازدحاماً كبيراً، وأضر ذلك الازدحام بالصحة العامة والخاصة. وكانت الأحياء اليهودية في أسبانيا تحتوي على مساكن جميلة وعمارات كما تحتوي على أكواخ قذرة، أما في غيرها من بلاد أوربا فكادت المساكن أن تكون أحياء قذرة وبيئة مزدحمة بالسكان (٣٤).
وكانت الجماعات اليهودية طوائف منعزلة شيه ديمقراطية وسط عالم ملكي مطلق، إذا استثنينا من هذا التعميم ما للثراء من أثر في الانتخابات وفي الاختيار للوظائف في جميع أنحاء العالم. وكان دافعوا الضرائب من الجماعات اليهودية يختارون أحبار الكنيس وموظفيه. وكانت فئة قليلة العدد من الكبار المنتخبين تكون بيت الدين أو المحكمة الشعبية، وهذه المحكمة هي التي كانت تجبي الضرائب، وتحدد الأثمان، وتتولى القضاء، وتصدره القرارات الخاصة بالطعام، والرقص، والأخلاق، والملبس، ولم تكن هذه القرارات تطاع على الدوام. وكان من حقها