ومهما يكن من امر فإن "الثيوديسية" أصبحت أوسع كتب ليبنتز انتشاراً وأكثر ما أقبل الناس على قراءته منها، وعرفه الناس بأنه "رجل أفضل العوالم الممكن وجودها". وإذا كان لنا أن نأسف لهذا السخف الذي يهذب ويثقف في هذا العمل العظيم، فإن إجلالنا للمؤلف يحيا ويتجدد إذا أجلنا الطرف في التنوع الغزير لاهتماماته الفكرية. وقد افتتن بالعلم ولو أنه كان جانباً من فكره. وقال ليبنتز لبيل يوماً لو أنه عاش حياة ثانية لأصبح عالماً بيولوجياً (٧٥). وكان من أعمق الرياضيين في عصر زخر بهم. ونبذ ديكارت في صياغة "مقياس القوة (١) ". أما تصوره للمادة على أنها طاقة فكان في نظر عصره لحناً ميتافيزيقياً، ولكنه الآن في أيامنا هذه أمر مألوف في الفيزياء. ووصف المادة بأنها إدراكنا المهوش أو المضطرب لعمليات القوة. ونبذ، مثل معاصرينا من أصحاب النظريات "الحركة المطلقة" التي افترضها نيوتن، وقال بأن "الحركة هي مجرد تغيير في الأوضاع النسبية للأجسام، ومن ثم ليست شيئاً مطلقاً، بل متضمنة في علاقة (٧٦) ". واستبق كانت في تفسير المكان والزمان، لا على أنهما حقائق موضوعية، بل علاقات مدركة حسياً: المكان مدرك حسياً على أنه تصاحب في التواجد، والزمان مدرك حسياً على أنه تعاقب-وهي آراء تتبناها اليوم نظريات النسبية. وفي عامه الأخير (١٧١٥) دخل ليبنتز في مراسلات طويلة مع صمويل كلارك عن الجاذبية الأرضية، التي بدت له صفة خاصة تكتنفها الأسرار، تعمل على مسافات هائلة جداً عبر فراغ ظاهر، واعترض ليبنتز بأنها قد تكون معجزة متصلة لا تنقطع، فأجاب كلارك بأنها ليست اعظم من "التناسق الأزلي (٧٧) "، وأبدى ليبنتز خوفه من أن تؤدي نظرية نيوتن في الآلية الكونية إلى كثير من الإلحاد، فأجاب كلارك، على العكس، أن النظام المهيب الذي كشف نيوتن غوامضه قد يقوي الإيمان بالله (٧٨). وبررت الأحداث اللاحقة رأي ليبنتز.
(١) كانت صيغة ديكارت ك س-مقدار الحركة الكتلة مضروباً في السرعة. فعدلها ليبنتز على كتاب جاليليو إلى ك س٢. والقانون السائد الآن: ٢ slash١ ك س٢.