خلف موت هنري الرابع المفاجئ فرنسا في فوضى متجددة، تأصلت جذورها الكثيرة في صراع النبلاء مع الملكية، والطبقات الوسطى مع الاستقراطية، والكاثوليك مع الهيجونوت، والاكليروس مع الدولة، والملك الصغير لويس الثالث عشر مع أمه، وفرنسا مع النمسا وأسبانيا، أما ذلك العبقري الساحر، الجبار، الذي أحال كل هذه الفوضى نظاماً، وهزم الرجعية الاقطاعية، وهدأ ثورة الهيجونوت، وأخضع الكنيسة للدولة، وأنقذ ألمانيا البروتستنتية من الانهيار، وكسر شوكة الهابسبورج المحدقين بفرنسا، ورفع الملكية الفرنسية إلى سلطانها المطلق في الداخل وإلى أسمى مقام في أوربا- هذا الرجل كان قسيساً كاثوليكياً، وكان أعظم السياسيين في تاريخ فرنسا، وأشدهم دهاء، وأقساهم قلباً.
إن بعض مأساة هنري أن وريثه لويس الثالث عشر كان عند موته غلاماً في الثامنة لا حول له ولا قوة. وأن الأرملة التي ترك لها الوصاية عليه كانت امرأة فاقت شجاعتها ذكاءها، على استعداد لتسليم الحكم لمحاسبيها الايطاليين ما دامت تستمتع بلذائذ الحياة في وفرة عامرة، تخلت عن خطة هنري في حرب تشن على الهابسبورج حتى الموت، بل إنها على العكس ألفت بين فرنسا وأسبانيا بتزويج أبنائها من أبناء فليب الثالث- فزوجت ابنها لويس لآن النمسوية، وابنتها اليزابيث للفتى الذي أصبح فيما بعد فليب الرابع- على أن إرادة ريشليو ستكون أقوى من هذا الدم المخلط.