يبدو لي أنه يحلو لي أكثر إلى أبعد الحدود، أن أمد يد المساعدة إلى المنكوبين، أو أسدي نصيحة مفيدة، أو أقرأ كتاباً جيداً، أو أتنزه مشياً على الأقدام مع رجل أو أمرأة عزيزة لدي أو أقضي مع أولادي بضع ساعات أتولى فيها توجيههم وتثقيفهم، أو أكتب صفحة أو أؤدي واجبات عملي، أو أصب في أذن حبيبتي بضع كلمات حلوة حتى تحيط عنقي بذراعيها وتعانقني .. إن أحد معارفي رجل من ذوي الثراء في قرطاجنة، وكان الأبن الأصغر في بلد جرت العادة فيه أن تؤول كل الممتلكات إلى الأبن الأكبر، وترامت إليه الأنباء في كولمبيا أن أخاه الأكبر، وهو شخص متلاف، قد سلب أبويه اللذين دللاه وتساهلا معه كل ما كانا يملكان، وطردهما من قصرهما. وأن هذين الولدين الطيبين يعيشان الآن في مدينة صغيرة في الأقاليم يعانيان مرارة الفقر، فماذا فعل هذا الأبن الأصغر الذي أساء والده معاملته إلى حد إنه رحل إلى أقصى الأرض يلتمس الرزق؟ إنه أرسل إليهما معونة بتدبير أموره، ليعود ثرياً ميسوراً إلى أبيه وأمه، وأسترد لهما دارهما، وهيأ الصداق لأخواته ليتزوجن. آه يا عزيزي رامو، إن هذا الرجل يعتبر تلك الشهور أسعد أيام حياته. إنه حدثني عنها والدموع تغمر عينيه. أما أنا، وأنا أقص عليك هذه القصة، فإني أحس بأن قلبي قد أرهقه الفرح والغبطة والسرور الذي لا أجد كلمات للتعبير عنه (٤٧).
[٥ - علم الأخلاق والسياسة]
كان لديدرو مثلما لنا جميعاً، شخصيتان على الأقل: نفس باطنة تختزن فيها خفية كل دوافع الطبيعة البشرية، كما هو موجود في الحياة البدائية بل حتى حياة الحيوان، ثم نفس ظاهرة للعيان تتقبل على كره منها التعليم والأنضباط والأخلاق، ثمناً يجب أن يدفع مقابل الحماية التي يبسطها النظام الأجتماعي. ولا تزال له أنفس أو شخصيات أخرى: ديدرو الذي لم يكن قد نسي شبابه، وحرياته البوهيمية وحبيباته وخلوه من المسئوليات اللهم إلا