ولم يتوان نقاده عن أن ينزلوا به أشد القصاص، رأوه يُعَلّم الكتب اليونانية واللاتينية، اتهموه بالوثنية؛ ولما رأوه يَدْرس اللغة العبرية على أحد اليهود، اتهموه بأنه ارتد إلى الدين اليهودي؛ ولما أهدى كتبه للنساء قالوا إن الباعث له على هذا هو الجشع المادي، أو ما هو أسوأ من الجشع المادي (٢٢). ولم يكن سعيداً في شيخوخته؛ ذلك أن البرابرة انقضوا على بلاد الشرق الأدنى، واجتاحوا سوريا وفلسطين (٣٩٥)"وكم من أديرة استولوا عليها، وكم من أنهار خضبت مياهها بالدماء! " ثم ختم أقواله بهذه العبارة "إن العالم الروماني يتساقط"(٢٤). وماتت في أثناء حياته بولا ومرسالا، وأوستكيوم وكن عزيزات عليه. وظل الرجل يواصل العمل في كتاب بعد كتاب، وقد ذبل جسمه وضعف صوته من فرط زهده، وتقوس عوده. وحضرته الوفاة وهو يكتب شرحاً لسفر أراميا -لقد كان رجلاً عظيماً أكثر مما كان رجلاً صالحاً؛ وكان هجاء لاذعاً لا يقل في ذلك عن جوفنال، وكاتب رسائل لا تقل فصاحة عن سنكا، وعالماً مجداً لا ينقطع عن الدرس والتبحر في الدين.
[٣ - الجنود المسيحيون]
لم يكن جيروم وأوغسطين إلا أعظم الرجلين في هذا العصر العجيب، فقد امتاز من "آباء" الكنيسة في بداية الهصور الوسطى ثمانية من علماء الدين: منهم في الشرق أثناسيوس، وباسيلي، وجريجوري، ونزيانزين، ويوحنا كريستوم، ويوحنا الدمشقي؛ وفي الغرب أمبروز، وجيروم، وأوغسطين، وجريجوري الأكبر.
وتدل سيرة أمبروز (٣٤٠؟ -٣٩٥) على قدرة الكنيسة على أن تجتذب لخدمتها رجالاً من الطراز الأول، لو أنهم وجدوا قبل وقتهم بجيل واحد لكانوا خدماً للدولة. وقد ولد أمبروز في تريير، وكان أبوه والياً على غالة، وكانت مخايل الأمور كلها والسوابق بأجمعها توحي بأنه سيكون من رجال السياسة. ولسنا ندهش