إذا شئنا أن نستعيد هذه الحضارة المدفونة مما بقي من آثارها- أي أن نفعل بآثار كريت المتفرقة ما فعله كوفييه Cuvier بالعظام البشرية المشتتة- وجب علينا أن نذكر أننا نقدم بهذا العمل على مغامرة تاريخية لا تؤمن مغبتها، وللخيال فيها شأن كبير، لأنه هو المصدر الذي نستمد منه الصلات الحية التي تسد الثغرات وتربط المادة العلمية الضئيلة المشتته التي يحركها المؤرخون حركة اصطناعية، بعد أن ماتت من زمن طويل. وسيظل ما تنطوي عليه جزيرة كريت من معلومات مجهولاً خافياً على العالم حتى يقيض للأسرار المخبوءة في ألواحها عالم مثل شمبليون.
[١ - الرجال والنساء]
بين الكريتيين، كما يتصورهم فنانوهم، وبين البلطة المزدوجة التي تظهر كثيراً في رموزهم الدينية شبه غريب فالرجال منهم والنساء لهم أجسام تدق من أعلاها ومن أسفلها حتى تنتهي في الوسط بدائرة شديدة الضيق كطراز هذه الأيام، ولكنه مبالغ فيه. وكلهم تقريباً قصار القامة نحاف، لدن، رشيقو الحركة، ذوو أناقة رياضية. وهم بيض البشرة وقت مولدهم؛ فأما نساؤهم اللائي يلازمن الظل فلهن وجوه بيض، جرى عرفهم بأن تمثل في صورهن ضاربة إلى الصفرة؛ وأما الرجال الذين يسعون في مناكب الأرض طلباً للرزق، فقد لوحت الشمس وجوههم فاحمرت، ولذلك كان اليونان يسمونهم) كما كانوا يسمون الفينيقيين (الفوينيقيين أي الأرجواني اللون، ورؤوسهم أقرب إلى الطول منها إلى العرض، ومعارفهم حادة دقيقة، وشعورهم وعيونهم سوداء