لا يمكن أن يقال عن أغسطس إنه "فر من الميدان وسمى هذا الفرار سلماً"؛ ذلك أنه لم يكد تمضِ عشر سنين بعد معركة اكتيوم حتى انتعشت بلاد البحر الأبيض المتوسط انتعاشاً لم يضارعه في سرعته انتعاش قبله. وقد كانت عودة النظام في حد ذاتها باعثاً قوياً على هذا الانتعاش؛ وكيف يتمنع الرخاء من إجابة هذه الدعوة الإجماعية التي يتقدم بها إليه ما عاد إلى البحر من أمن وسلامة، وإلى الحكومة من الاستقرار، مضافاً إلى استمساك أغسطس بالقديم الموروث وتحفظه، وإلى استهلاك كنوز مصر المدخرة، واستغلال المناجم الجديدة، وإنشاء دور سك جديدة، وإلى ثقة الأهلين بالنقد وسرعة تداوله، وكعالجة الزحام في إيطاليا بإقطاع الأهلين أرضاً يفلحونها، وبنقلهم إلى أراضي المستعمرات؟ ومن القصص المأثورة في هذا الصدد أن جماعة من بحارة الإسكندرية نزلوا في بتيولي، وكان أغسطس قريباً منها، فأقبلوا في ملابسهم الزاهية وأهدوا إليهِ البخور كما يهدى البخور إلى الآلهة، وقالوا له إنهم استطاعوا بفضله أن يسيروا في البحر آمنين، وأن يتاجروا واثقين، وأن يعيشوا سالمين (٨).
ولم يكن اغسطس، وهو حفيد رجل مصرفي، يخالجه أدنى شك في أن خير سياسة اقتصادية هي السياسة التي تجمع بين الحرية والأمان. ومن أجل ذلك وفر الحماية لجميع طبقات الأمة بسن القوانين، وبالدقة في تطبيقها؛ ووضع في الطرق العامة حراسة قوية، وأقرض ملاك الأراضي المال من غير فائدة (٩)؛ وهدأ ثائرة الفقراء بما وزعه عليهم من قمح الدولة، و"بالقرعة" والهدايا بعض الاحيان. أما فيما عدا هذا فقد ترك للمشروعات الخاصة، والإنتاج، والتبادل، حرية أوسع