المخالف فرصة مكافئة لفرصة مناظره؛ ويتدفق تدفقاً أكثر سلاسة وسط مناظر يتغلب هدوؤها على ما فيها من مآسٍ، حتى أن موت سقراط نفسه ليشبه اختفاء النهر عن العين حين يلتف عند أحد المنحنيات. ويدور بعض ما يشتمل عليه فيدروس من حوار على شواطئ نهر إليسوس Illissus حين يبرّد سقراط وتلميذه أقدامهما في ماء النهر. ولا حاجة إلى القول بأن أعظم المحاورات كلها على الإطلاق هي الجمهورية لأنها أكمل عرض لفلسفة أفلاطون، وهي في أولى أجزائها صراع مسرحي بين الأشخاص والآراء. والبارمنيدس أسوأ مثل للتلاعب المنطقي في الأدب كله، كما أنه أجرأ مثل في تاريخ الفلسفة للمفكر الذي يفند أحب العقائد إلى نفسه - نعني نظرية الأفكار - تفنيداً لا يقوى أحد على الرد عليه ودحض حججه. وفي المحاورات الأخيرة تضعف قدرة أفلاطون الفنية، فتضمحل شخصية سقراط، وتفقد الميتافيزقيا شعريتها، وتفقد السياسة "مُثُل الشباب العليا" حتى إذا ما وصلنا إلى القوانين، استسلم الرجل المتعب المنهوك القوى الذي ورث جميع ثقافة أثينة على اختلاف مناحيها إلى إغراء إسبارطة، وطلّق الحرية، والشعر والفن والفلسفة نفسها.
[٣ - الميتافيزيقي]
لم يتبع أفلاطون فيما خلفه من أفكار خطة منظمة، وإذا لخصنا نحن آراءه ووضعنا لها رؤوس موضوعات مختلفة كالمنطق، وما وراء الطبيعة، والأخلاق، وعلم الجمال، والسياسة، ليسهل علينا أن نتحدث عنها حديثاً منظماً، فإن من الواجب أن نذكر أن أفلاطون نفسه كان شاعراً مغرقاً في شاعريته إلى حد يمنعه أن يقيد أفكاره ويحدها بحدود. وإذ كان أفلاطون شاعراً فقد كان المنطق أكثر ما يعترض سبيله من الصعاب، فهو يجول هنا وهناك يبحث