ترى ماذا كان خطب الحكومة؟ إنها لم تبلغ في استبدادها ما بلغته حكومة بروسيا، ولا في فسادها ما بلغته حكومة إنجلترا، وكان جهازها البيروقراطي وإدارتها الإقليمية يضمان نفراً من الرجال الأفاضل وكثيراً من الرجال الأكفاء. ومع ذلك أخفقت ملكية البوربون في أن تلاحق تطور الشعب الاقتصادي والفكري. ونشبت الثورة الفرنسية بأسرع مما نشبت في غيرها لأن الطبقات الوسطى كانت قد بلغت شأناً من الذكاء أبعد مما بلغته في أي أمة معاصرة أخرى، وفرض فكر مواطنيها اليقظ المتنبه مطالب على الدولة أكثر حدة مما كان على أي حكومة في ذلك العصر أن تلبيه.
وكان فردريك الثاني ويوزف الثاني، وكلاهما نصير متحمس للفلسفة والملكية المطلقة، قد أدخلا في الإدارة السياسية لبروسيا والنمسا قدراً من النظام والكفاية لم يكن وقتها متوافراً في بلد كفرنسا يحب الاسترخاء واليسر اللاتينيين. "واستشرى الاضطراب والفوضى في كل مكان"(١٦)، ففي فرساي تنازع مجلس الملك في اختصاصه مع الوزراء، الذين تنازعوا فيما بينهم لأن وظائفهم تداخلت ولأنهم تنافسوا على الأموال العامة ذاتها، ولأنه لم تفرض عليهم من فوق سلطة توفق بين سياستهم. وانقسمت الأمة في ناحية إلى دوائر Bailllages أو Senechaussees في مجال القضاء، وفي أخرى إلى أقسام مالية ( Geanéralités) في المالية، وفي ناحية ثالثة إلى إدارات ( Gouvernements) في الجيش، وفي رابعة إلى أبرشيات Paroisses وأقاليم Provinces في الكنيسة. وفي كل قسم مالي كان الناظر الملكي يصطدم بالحاكم و "البرلمان" الإقليمي. وفي جميع أرجاء فرنسا اصطدمت مصالح المنتجين الريفيين مع مصالح المستهلكين الحضريين والأغنياء مع الفقراء، والنبلاء مع البرجوازيين، والبرلمانت مع الملك، ومست الحاجة إلى قضية موحدة للصفوف وإرادة آمرة، ولم تتوفر القضية إلا في ١٧٩٢، ولا الإرادة إلا في ١٧٩٩.