يقسم المؤرخون الماضي أحقاباً، وسنين، وحوادث، كما يقسم الفكر العالم جماعات، وأفراداً أو أشياء؛ ولكن التاريخ لا يعرف، كما لا تعرف الطبيعية، إلا الاستمرار والتغير-والتاريخ لا يقفز قفزات- Historia mon facit. لهذا لم تشعر بلاد اليونان الهلنستية بأن موت الإسكندر كان نهاية عصر من العصور؛ بل نظرت إلى الإسكندر نفسه بأنه بداية العصور "الحديثة" وعلى أنه رمز الشباب القوي لا على أنه عامل من عوامل الاضمحلال والفناء؛ وكان هذا العالَم موقناً بأنه قد بدأ الآن أعظم مراحل النضوج، وأن زعمائه لم يكونوا يقلون عظمة وفخامة عن الزعماء في أي عصر من العصور الماضية ما عدا الملك الشاب نفسه، فهو دون غيره نسيج وحده (١). ولقد كان هذا العالَم على حق من نواح كثيرة. ذلك أن الحضارة اليونانية لم تمت بموت الحرية اليونانية، بل إنها على العكس من ذلك قد افتتحت لنفسها أقطاراً جديدة، وانتشرت في ثلاث جهات بعد أن حطم تكوين الإمبراطوريات الواسعة ما كان يعترض سبل الاتصال والاستعمار والتجارة من حواجز سياسية. وكان اليونان لا يزالون شعباً مغامراً يقظاً، فهاجروا بمئات الآلاف إلى آسية، ومصر، وإبيروس، ومقدونية، وبذلك لم تزدهر أيونيا مرة أخرى وحسب، بل إن الدم الهليني