واللغة اليونانية والثقافة اليونانية قد شقت طريقها إلى داخل آسية الصغرى، وفينيقية وفلسطين؛ واخترقت سوريا، وبابل؛ وتخطت نهري الفرات ودجلة، بل وصلت إلى بكتريا والهند نفسهما. ولم تكن الروح اليونانية في وقت من الأوقات أشد مما كانت في ذلك الوقت حماسة وشجاعة؛ لم تحرز الآداب والفنون اليونانية نصراً مؤزراً أوسع من النصر الذي أحرزته في تلك الأيام.
ولعل هذا هو السبب الذي جعل المؤرخين يختتمون تاريخ بلاد اليونان بالإسكندر؛ ذلك أن العالم اليوناني بعد موته قد بلغ من الاتساع والتعقد حداً لا يستطيع الإنسان معه أن ينظر إليه على أنه وحدة، أو يقص تاريخه قصة متصلة. ذلك أنه لم تقم فيه ثلاث دول ملكية كبرى فحسب- مقدونية، وسلوقية ومصر-؛ بل نشأ فيه أيضاً مائة من دول المدن اليونانية تتمتع بدرجات مختلفة من الاستقلال؛ وقامت أحلاف واتحادات متشابكة؛ وأنشأت دول نصف يونانية في أبيروس، وبلاد اليهود، وبرجموم، وبيزنطية، وبيثينيا، وكبدوكيا، وغلاشيا، وبكتريا. وقامت في الغرب إيطاليا وصقلية اليونانيتان تتنازعهما قرطاجة العجوز ورومة الفتية. وكانت دول الإسكندر المزعزعة القواعد لا تربطها إلا روابط ضعيفة من اللغة وسبل الاتصال، والعادات والدين، لا تقوى معها على البقاء طويلاً. يضاف إلى هذا أنه لم يترك وراءه رجلاً قوياً واحداً بل ترك رجالاً كثيرين، ولم يكن منهم من يقنع بأقل من السيادة التامة. وغفلت الدولة الجديدة لسعتها واختلاف أصقاعها عن فكرة الديمقراطية، فقد كان الاستقلال، كما يفهمه اليونان، يفترض وجود دولة مدينة يستطيع مواطنوها أن يجتمعوا في أوقات معينة في مكان واحد. يضاف إلى هذا أن فلاسفة أثينة الديمقراطية قد عابوا على هذه الديمقراطية نفسها أنها مستقر الجهالة والتحاسد والفوضى. وكان خلفاء الإسكندر جماعة من الزعماء المقدونيين تعودوا من زمن بعيد أن يقيموا حكمهم بالسيف؛ ولم يكن للديمقراطية نصيب من تفكيرهم إلا في أوقات متفرقة