كانت غالة في القرنين الرابع والخامس أكثر الولايات الغربية في الإمبراطورية الرومانية رخاء من الناحية المادية وأعظمها رقياً من الناحية العقلية. فقد كانت ترتبها خصبة كريمة، وصناعتها اليدوية متقدمة، وأنهارها وبحارها تعج بالمتاجر وكان نربونه وأرْليز، وبردو، وطولوز (طلوشة)، وليون، ومرسيلية، وبواتيه، وتريبه جامعات مزدهرة تنفق عليها الدولة، وكان المدرسين، والخطباء، والشعراء، والحكماء منزلة لا ينالها في العادة إلا رجال السياسة والملاكون. وفي أيام أوسنيوس وسيدنيوس عقد لغالة الزعامة الأدبية في أوربا كلها.
وكان ديسموس أوسنيوس Deecimus Magnus Ausonius شاعر العصر الفضي في غالة، وفيه تتمثل روح هذا العصر. وقد ولد في بردو حوالي عام ٣١٠، وكان والده كبير أطبائها، وفيها تلقى علومه، وقد حدث العالم فيما بعد في شعر كريم سداسي الأوتاد عن فضائل معلميه، ذكر فيه بسماتهم وأغفل ضرباتهم (٢٥). وسارت حياته بعدئذ سيراً هادئاً مطمئناً حتى عين أستاذاً في بردو وظل يعلم "النحو"(وكان يقصد به وقتئذ الأدب) و "البلاغة"(أي الخطابة والفلسفة) نحو ثلاثين عاماً، وكان مربياً للإمبراطور جراتيان قبل أن يتولى عرش الإمبراطورية. وإن فيما كتبه عن والديه وأعمامه وأخواله، وزوجته، وأبنائه وتلاميذه ما يوحي بأن حياته في البيت وفي خارجه كانت شبيهة بحياة المدن الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر. وهو يصف بعبارات جذابة البيت والحقول التي ورثها عن أبيه، ويحدثنا عن المكان الذي يرجو أن