أوربا لم يغلبها على أمرها دين شرقي فحسب، بل سيغلبها كذلك فن شرقي إن لم يكن في جميع أنحائها ففي العالم البيزنطي على الأقل.
[٢ - الفنانون البيزنطيون]
نرى من أين جاء إلى القسطنطينية ذلك الفن ذو اللون الفذ، البراق المقبض الذي نسميه الفن البيزنطي؟ ذلك السؤال ثار فيه الجدل بين علماء الآثار بقوة لا تكاد تنقص عن قوة الجنود المسيحيين في حروبهم، وكان النصر النهائي في هذه المعركة الكبرى لبلاد الشرق. وتفصيل ذلك أنه حين قويت سوريا وآسية الصغرى بفضل ما حدث فيهما من تقدم صناعي، وحين ضعفت روما بسبب الغزو الأجنبي، ارتد التيار الهلنستي الذي اندفع نحو الشرق إثر فتوح الإسكندر من آسية إلى أوربا، وتلاقت في بيزنطية مؤثرات الفن الشرقي المنصبة من فارس الساسانية، وسوريا النسطورية، ومصر القبطيةـ ووصلت هذه المؤثرات إلى إيطاليا، بل تعدتها إلى غالة، وتخلى الفن اليوناني الممثل للطبيعة عن مكانه إلى الفن الشرقي ذو الزخارف الرمزية. وكان الشرق يفضل الألوان عن الخطوط والأقواس والقباب عن السقف الخشبي. والزينة الكثيرة عن البساطة الصارمة، والأثواب الحريرية الفخمة عن الجبة التي لا شكل لها. وكما أن دقلديانوس وقسطنطين قد اتخذا في نظم الحكم أشكال الملكية الفارسية، فكذلك شرع فن القسطنطينية يغض النظر شيئاً فشيئاً عن الغرب الذي ألقى الآن بنفسه في أحضان البربرية، وأخذ يرنو ببصره إلى آسية الصغرى وأرمينية، وفارس، وسوريا، ومصر. ولعل انتصار جيوش الفرس في عهد شابور الثاني وكسرى أنوشروان قد عجل خطوات البواعث والأساليب الشرقية. وكانت الرها ونصيبين في ذلك الوقت مركزين مزدهرين من مراكز ثقافة ما بين النهرين، وهي الثقافة التي